ليس من شك ان  الفضل الأكبر في  معرفتي بكاتبٍ نشيطٍ اسمه نبيل الربيعي ، انما يعود  الى تكنيك النشر الاجتماعي - الالكتروني ( الفيسبوك ).

الفيسبوك كان  و لا يزال ، هو المنتزه الوطني الكبير في سياق التعلّم المباشر او التعلم غير المباشر بوسيلةِ المحاكاة المعرفية  . اجول في صفحات فيسبوكية ، توفّر أشياء المعارف و المعلومات بحسٍ حركيٍ بسيطٍ جداً،  لكبار السن و صغاره ، للرجال و النساء،  بمجرد كبس زر من ازرار الكومبيوتر او الموبايل  ، متعقباً كتاباتٍ متنوعةً منحتني فرصاً هائلة لقراءة و دراسة الكثير من  المنشورات الغنية بالمعلوماتية الفكرية ، السياسية ، الاجتماعية ، الثقافية ، عن وطني و عن أوطان العالم، كله. كما وجدتُ اسهاماً ادبياً جعلني في حالةِ اطلاعٍ واسعٍ على تطور المبدئية،  الخصوصية و العمومية،  عن الإمكانيات الهائلة المتوفرة داخل الوطن و خارجه. واحدة من  هذه الإمكانيات،  ذات الإشعاع التنويري، وجدته  منقوشاً تحت اسم نيّر : نبيل عبد الأمير الربيعي. 

اولاً اقول ، مؤكداً،  أنني لم أتشرّف ، سابقاً، بالتعرّف على هذا الاسم الكريم .  المرجّح  أن مصنوعاته الكتابية ، قد جذبتني اكثر من مرة، للتركيز عليها، لأنها ذاتُ قيمةٍ دلاليةٍ مفيدة لي و لأبحاثي الثقافية و السياسية . كانت كتاباته المتلاحقة عن الكثير من الاختلافات الثقافية و تأثيرها على الممارسات السياسية، العراقية، بالذات ،  قد جعلته  نصيراً لجميع المدافعين عن حق الثقافة العراقية و عن حقوق المثقفين العراقيين ، المندفعين نحو اجراء تغييرٍ حقيقي في الواقع الوطني، الثقافي و السياسي و الاجتماعي. لذلك فأنا مسرور ، جداً ، حين أجد نبيل الربيعي مليئاً ،  بنسبةٍ كبيرةٍ من حصة الدعم الثقافي لقصيدة الريل و حمد  و لمجمل الطاقة الشعرية - الشعبية المحمولة على الطاقة الشعرية ،  التطويرية ، الموصولة بعقل الشاعر مظفر النواب و بعقلانية أشعاره. 

ثمة موضوعات ، كلية او جزئية،  تجبرني على متابعة هذا الموضوع او ذاك ، لوجود اسم، هذا الكاتب العراقي  من ضمن  اسماء الثقة الموضوعية.  يضطرني، هذا،  ان اتابع رؤياه،  بهذا الموضوع  او ذاك من الموضوعات الأدبية او فروعه النقدية او الاستعراضية او الأرشيفية او غيرها . انها مناسبة إيجابية جداً حين اجد فرصة  الإفادة من بعض آرائه المكتوبة ، منها فرصة  الكتابة ، هذا اليوم عن رأيه بقصائد الشاعر مظفر النواب .  انها فرصة  موثوقة، لأنها تعتمد على  التفاصيل ، العلمية،  الدقيقة.  إنها  متقنة بعالي الدقة و الجودة و الموسوعية  كأنها من منتجات  ميتسوبيشي ، أو من مصنوعات شركة سويسرية ذات قيمة استعمالية عالية السمعة  . انه نبيل عبد  الامير الربيعي ، صاحب الامتدادات الكتابية الوطنية الحقة . جعلتني سياقاته في  المشي و المتابعة وراء جهده اللغوي في اشعار مظفر النواب و ان  أتابعه و اتابع كتاباته ضد نمط احكام البلوتوقراطيين العراقيين من جميع الأصناف.. وجدته داعماً مبدئياً لجميع اصحاب السبل التنويرية - التغييرية في بلدنا ، بلد الرافدين ، الجميلين ، المغرمين.  وجدته من صنفٍ  ابحث عنهم لمساعدتي في صياغة الموقف العمومي لكشف حقيقة البناء اللغوي في لغة القصيدة الشعبية المظفرية .

وجدتُ  اهتمامَ شخصٍ معرفيٍ ثريٍ،  يتلازم ، بقوة ، مع   الخلق النقدي بكافة انواعه ، النسبية و البيانية ، اسمه :  نبيل الربيعي ،  خاصيته الثقافية الرئيسية هي : التعامل بطريقةٍ واحدةٍ مع كلِ  متلازمٍ عراقيٍ ، خالق لمنتجات الشعر الشعبي ، واولهم في سباقِ، نموذجِ،  التجديد  المركّب  ، الشاعر مظفر النواب. 

نبيل الربيعي أحد قادة  الحملات التنويرية في البيئة الجماعية، العراقية . أحد   المشاركين ، الفعّالين ،  مع الجمع الثقافي العراقي الجديد للمشاركة الحية بزيادة وعي الشباب الثقافي ، العراقي، الجديد ، ممتداً في البقعة الوسطية العراقية من نهر الفرات حتى الفاو ، جنوب مدينة البصرة ، حيث الشعر الشعبي ، لغة يومية متداولة ، بين الأميين و المتعلمين  .  هذا الواقع مكنني ، كثيراً ، بتصنيف عقلية و عقلانية هذا الرجل باعتباره عنصراً طليعياً ضمن فئة نشاطية و ليس فرداً نشيطاً يمكنه ان يكمّل منظوري الخاص ، في صياغة التفكير الشعري،  الشاعري،  عن الشاعر مظفر النواب . الحق أقول : أن قدراته الملائمة والصحيحة ،  جعلتني واقفاً على قمةٍ عاليةٍ ناظراً من خلالها إلى  سلسلة الأفكار في المدى المنظور بالشعر الشعبي ، المظفري، بدءاً من قصيدة الريل و صاعداً ، حيث  صار زمان الوسط الفراتي - العراقي - الجنوبي ، منبهراً بسطوع قصائد مظفر النواب  بدرجةِ حرارةٍ مناسبةٍ في منتديات الحياة الأدبية - النضالية ليصل بريقه اللامع ، بتوليفه القصيد المخضرّ، الى داخل الحركة الأدبية ، خاصة في عمقها : الشعر الشعبي، المقرّب من الشعر الفصيح  . 

لا تعني مقالتي ، هذه، بجميع مقاربات الانتاج الأدبي - النبيلي. انني احاول تغطية جانبٍ أدبيٍ واحدٍ من قطاعٍ شعريٍ عريضٍ في حركة الشعر الشعبي،  يتأرجح على مرجوحة  (الريل و حمد)  ليلتقط البذور الراجحة ، الفالحة، و بعض حكاياتٍ  عن نموها في المدن و القرى العراقية من خلال العدستين التاليتين :

  1. عدسة  التجربة التاريخية في اشعار الشاعر مظفر النواب.
  1.  عدسة التجلي في كتابات الناقد المتابع نبيل الربيعي ، صاحب الرؤية التحولية في التاريخ العراقي الجديد.

اشتغل نبيل  الربيعي على ألكمِّ الشعري النوّابي  واصفاً الشاعر مظفر النواب  بأنه:

   (أ ) شاعر المقاومة العراقية .

   (ب) شاعر النضال العراقي .

   (ج)  شاعر الريل و حمد.  

اهتم الربيعي ، في مقالاته عن النواب، بمتابعة الشعر الشعبي المظفري ،كله،  حيث يتميز بنسجه عما يوازي او يساوي او يعادل ما   فعله شعراء عراقيون بارزون ، بالشعر العمودي  الفصيح ،  من امثال  بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و بلند الحيدري و سعدي يوسف و غيرهم كثيرون.

 في اقل الاحتمالات ان إنتاجية مظفر النواب  كانت تسير بذات الاتجاه في مسيرة الشعر الشعبي ، اعتماداً على  مجموع الطبيعة الروحية للأخلاقية الشعرية، العراقية ،  الجديدة ، بنهوضٍ مشتركٍ من قبل هؤلاء الشعراء المذكورين . 

حاولتُ ان اجد وصفاً محدداً يمكن  إطلاقه على الأسلوبية المعتمدة من قبل  الكاتب المستفيض ، نبيل عبد الامير الربيعي، فلم اجد وصفاً مناسباً غير: (الحصافة الجمعية). ذهبتُ إلى هذا الوصف لأنني وجدتُ علاقةً حصيفة ، مباشرةً ، بين الأحداث المتناولة، من قبله،  مرسومةً بمشاعرهِ،  مدوّنةً بأحكامهِ الشخصية.  يتعامل معها ، جميعها،  بلونٍ اخضرٍ،  باعتباره لون الحركة  عند الوقوف أمام  الترافك لايت .

من شدّة تواضعهِ ، ادخل رأيه (الخاص) مجموعاً بالرأي ( العام) حول شعر مظفر النواب ، المرتبط بتماثلِ آراء كتــّابٍ عراقيين آخرين كانوا قد أعطوا رأياً بشعر  (الريل و حمد) و ما بعده . . كان يحاول استخلاص رأيٍ ليس محايداً ، بقدر ما يمكن وصفه انه رأي نقي ، رأي  ليس ملوثاً  بآراء الكائنات الدوغماتية في الثقافة العربية ، خاصة (الثقافة القومية) . اعتمد نبيل الربيعي على آليتين تكنيكيتين .. الأولى هي ( الصدق) . الثانية اعتماداً على آلية ( الضبط) . أمثلته كثيرة ، يستخدمها وسيلةً  للوصول الى الحقيقة الثقافية ، الشعرية . 

انضم صدق و ضبط نبيل الربيعي إلى حالة الحرية النقدية، موصولةً و مفعولةً ، لدى عديدٍ من النقاد لاكتشاف حقيقة  التحديث في القصيدة الشعبية على يد مظفر النواب و هو يتابع سياقاً ليس مألوفاً في تنمية قدرات الشعر الشعبي . 

قام باستجواب  ( الريل) و ( حمد)  بطريقة المحاكمة النقدية .  وجد نفسه صادقاً مع الناقد محمد جبار  و كان منضبطاً مع أفكار الناقد الدكتور حسين سرمنك  ، واصلاً  الى مجازات الشعر الشعبي،  المستحدث بمفردات شعبية اخترعها الشاعر مظفر النواب .

تابع ، هذا الشاعر المجدد، قدراته  و قدرات اشعاره ، في تجديد القوافي و التلاعب بأجزاءِ الأوزانِ من اجل جعل قصائده ، واحدة ، بعد اخرى، متغيرة او متحولة او متبدلة عن طبيعة القصيد الشعبي ، كله، لتكون مفردة  (اللهجة العامية) قريبة من مفردة (اللغة  الفصحى).

اكتشف الربيعي ان  النواب شاعر من فئة الساحرين ، الصاعدين الى مقاماتٍ شاعريةٍ عليا. مستنزلاً أساليب غالبية قصائد الشعراء الشعبيين الى التراتبية القديمة . 

 توصّل الربيعي من هاتين العمليتين الجمعيتين الى رسمِ خطوطٍ كبرى لموضوعات و طرائق عددٍ آخر من قصائد مظفرية (شعبية) استنطقها بعد صدور قصيدة ( للريل و حمد) مجبراً افكاره الخاصة على خدمة مهاراتِ نفسهِ في البحث عن اسرار النقد لدى آخرين انتزعوا بعض اسرار القصيدة الشعبية ، المظفرية . اول اشياء الأدوات الرمزية ان نبيل الربيعي توصّل الى صنفٍ نافعٍ عظيمٍ بالقول  :  (ان مظفر النواب قد اصبح رائد الثورة العامية الحديثة في الشعر الشعبي). 

ليس تقليداً يسيراً تصنيف الشاعر النواب رائداً في الارضيّة الشعرية الشعبية الهائلة من قبل نبيل الربيعي ، لأن الطريقة الخاصة،  التي تعامل بها للوصول الى زمنية اكتشاف الريادة المظفرية، كانت طريقة الغوص في أعماق العلاقات القصدية بين (اللهجة) و (اللغة)  . كذلك  استخدم طريقة سحرية لانتزاع القصيدة ،بيتاً ، بيتاً ، من شجرة البستان الشعري المظفري ليكتشف ان قصائد مظفر النواب هي خير اشعار العِرْق الشعبي . اكتشف هذه  الحقيقة لأنه بذل جهوداً( فردية ) لدراسة الجهود (الجماعية) لمعرفة جوهر العِرْق الشعب القصيدة  المظفرية .   

بهذه الصورة ( الربيعية) توصل نبيل الربيعي الى قوائم المثلث الشعري المرسوم بقلم و عقل مظفر النواب :

(١) القائم الاول كان معنياً في علاقة الكائن الحي ( حمد) مع ذاتية الحب في ام شامات .

(٢) القائم الثاني بُني على إلزامية تأثير المحاورات المتمردة بين حمد و حبيبته بالميل الفطري نحو الحب. 

(٣) القائم الثالث بناه الشاعر على أساس الجنوح نحو تفكيك علاقة الحب والرجوع به الى  الطفولة، بمشاعرها و ألعابها . 

بهذه الأعمدة الثلاث طوّر مظفر النواب الشعر الشعبي باستجواب ماضيه من جهة ، و تشكيل طبيعته المستقبلية من جهة ثانية.   توارتْ أساليب و ظهرتْ أساليب أخرى في فلسفته الشعرية عموماً و في جميع اشعاره التالية لقصيدة الريل و حمد ، المنشورة في ديوانه الوحيد، ايضاً. 

هذه هي حالة الفن الشعري المقيدة في سلسلة مقالات نبيل الربيعي المنشورة في موقع الحوار المتمدن . استطاع بها ان يربط عناصر هذا الفن ، جزءاً مع جزء، وان يقيدها في سجل الطريقة التجريبية المتصاعدة في اشعار مظفر النواب الشعبية . 

لم يتثاقل نبيل الربيعي من معرفة  بعض مظاهر اسلوبية الاختزال المظفري عن اي إطالة بمدّ أبيات الشعر الشعبي في القصيدة الواحدة . انه ادرك وصية سيبويه بالاختزال اللغوي في الكلام الشعري ، الى أدنى حدٍ ممكن . هذه الوصية استخدمها بشاعريته الشعبية . 

لم يذكر بقصيدة الريل و حمد اسم المرأة و لا أوصافها و لا أوصاف عائلتها او عشيرتها . اختزل كل شيء . اختزل التعبير عن خوف ( الأنثى) او عن جبروت (الذكر) ،  بينما القصيدة كانت تعريفية لهذا الجانب من الحياة الانسانية . لم يتناول النواب طريقة الشعراء الشعبيين ، السابقين له و  لعصره، بكتابة مضمون القصيدة ،قطعةً،  قطعةً ، بالغوص في غرائبية ( اللهجة) . أحياناً يكون التقطيع سريعاً و أحياناً بطيئاً . مظفر النواب ترك اُسلوب تزايد الحلقات الشعرية او ترابطها . كان اُسلوب كلام الشعر الشعبي،  مضمراً و مكشوفاً،  في  الوقت الواحد،  المرتبط بالهدف  الواحد. انه شاعرٌ من نوعٍ يخلق الصورة الشعرية مباشرة،  تارةً ، او انه يترك القارئ في حالة تخيل الصورة الشعرية بنفسه، تارةً أخرى . هذا هو الانفراد النوابي بمخلوقه بالشعر الشعبي. لم يجد نبيل الربيعي نوراً في اشعار مظفر النواب ليست مسبوقة بسحابةٍ بيضاء او محمولة عليها. ربما كان شبيهاً بنفحات الشاعر محمد مهدي الجواهري او الشاعر القديم ، ابي الطيب المتنبي. لم يحبس نفسه بأسلوب واحد معين. لم يحصر شعره عن الانطلاق الحر، شكلاً و مضموناً. ما مشى فوق شوك الشعر الشعبي و لم يتبختر بالدوس عليه واجتيازه  . لم يكسر قلمه بشيء و لم ينكسر بمواجهة شيء. لا يمكن ان ترى قرفاً منه عند كتابة أية قصيدة شعرية ، منذ الريل و حمد حتى جميع قصائده الشعبية المنتقاة في الامور السياسية او الامور المحددة ( كما في قصيدة المنايا ألما تزورك زورها)  او المختلطة في أنسابها او القافلة المقفولة على موضوع واحد ، كما في ( قصيدة البراءة) . مظفر النواب شاعر ( يعمل) كثيراً و طويلاً من اجل انتقاء الكلمة الواحدة او العبارة الواحدة او الصورة الواحدة ، تبعاً  لما وراء القدرة أو الضرورة  على تجسيد التعبير بصوابٍ و جمال لهما  لب واحد. اظهر مظفر النواب اول النصوص التقريبية ذات العلاقة الحميمة المتطورة بين اللغة العربية (الفصحى) و اللغة ( العامية) . 

 اكثر الشعر الشعبي لغة ليست متجددة . كانت لهجة قد وصلت الى حد التحجر . وصلت الى حدٍ يصعب استعمالها  و من الصعب فهمها  ، لكل الأمة او لكل البلد . ما يتكلم به أهل الموصل يصعب فهمه من قبل الانباريين . ما يتكلم به التكريتي متعذر فهمه او استيعابه من قبل اي مواطن عراقي آخر في مدينتي العمارة و الناصرية  . نظر مظفر النواب الى الشعر الشعبي باعتباره تراثاً ينبغي تحويل الجوانب غير العقلانية ، فيه،  الى الجوانب العقلانية . اتت المفردة الشعرية تُلِّح عليه،  طالبةً منه ، ان  يتعامل معها بعقلٍ شعري متفتح يتميز بالوعي اللغوي و ضرورة التحرر من قدسيتها او من روحها المناطقية الجبرية أو من علامتها الدينية .

مثلاً، كانت اللازمة الشعرية لقصيدة الريل و حمد قد نبذت شيئين و حققت شيئين . نبذت التميز الصارخ بين الفصحى و العامية  . ألغت ارتباط الخرافة بالعقل. كما حققت بداية  الدخول الى زمان تنقية اللغة و التراث من الركام المغبر على لغة الناس كلهم في البلد الواحد . اصبحت ( هودر هواهم و لك حدر السنابل كَطة) لغة تحمل أمانةً علمية في التعامل بين سكان المدن و القرى ، بين المتعلمين و غير المتعلمين  و النظر اليها كوحدةٍ لغويةٍ واحدةٍ تمثل روح العصر .

تعمق نبيل الربيعي بتفسير بعض مشاهداته في ضوء العلاقة بين اللهجة و اللغة بين العامية و الفصحى .. كان قد وضع إشارة التركيز تحت ابيات الاشعار الفصحى و العامية في شعر النواب وكيف يمكن تقريبها الى بعضها خدمة في توفير فرص الاكتشاف الشخصي لجميع الشعراء الشعبيين بعد قصيدة (الريل وحمد) إلى عمق الاستفادة  من تقاليدها  ومن استعمالاتها العمومية، غير  العشائرية.  استطاعت اللهجة المستخدمة في اشعار مظفر النواب بتحررها من الارتباطات الجينية العشائرية و المناطقية. كما  اثبت الربيعي ان من السهولة على (جميع) الشعب العراقي – عدا الكرد طبعاً- ان يفهم  جميع قصائد النواب بالفصحى لقرب مفرداتها من العامية ، مثلما كانت المفردات العامية قريبة من الفصحى .

جاء في محتوى مقال الربيعي المنشور على موقعه بالحوار المتمدن ، بتاريخ 16 ديسمبر 2012 إشارة واضحة الى معنى متحقق بهذا الصدد : من خلال قصائد النواب فقد قرأ الشعب العراقي جميع قصائده وهذا ما لم يتحقق لجميع الشعراء في الحركة الشعرية الثورية , فكانت لنا فترة السبعينات من تغنى بقصيدة النواب ( وتريات ليلية ) حتى الأميين كانوا يحفظون منها بعض المقاطع , كانت فترة المدّ الثوري بين أبناء الشعب العراقي , فقد كانت قصيدتهُ تمثل الحداثة الشعبية في ذلك الوقت وما زالت تتداول بين الأوساط المثقفة لحد الآن.

لكن الشاعر النواب قد أحب بلده وكان الوصف الرائع لأرض العراق وشعب العراق , فقد تشرّبت روحه بأريج تراب العراق الطاهر من خلال قصيدته للريل وحمد:

          ما أظن أرضاً رويت بالدم والشمس كأرض بلادي

          وما أظن حزناً كحزن الناس فيها

          ولكنها بلادي

          لا أبكي من القلب

          ولا أضحك من القلب

          ولا أموت من القلب

          إلّا فيها....

غير ان الناقد الربيعي وجد شيئاً آخر في  قصائد النواب ، متمثلاً في  الواقع العراقي المرّ ، مجسداً شخوصاً حقيقيين في أغلب قصائده في ديوان (الريل وحمد)  مستخدماً أسماء شعبية مثل اسم (صويحب)  و اسم ( سعود) و أسم ( لعيبي) و اسم (غيلان)  و غيرها من أسماء عراقية تجدها واسعة الانتشار في المناطق الريفية و المدنية. تماماً مثل محاولاته بجعل المعارف المتراكمة ريفياً،  متواصلةً مدنياً، أيضاً،  عبر الرموز اللسانية باستخدام مظفر النواب رصيد المعارف اللهجوية قريباً جداً من المعارف اللغوية .

تعالوا نحاول ، هنا ، القيام بمهمة بسيطة جداً ، محاولة تحويلِ فعاليةٍ لهجويةٍ في اشعار مظفر الى الفصيحة اللغوية العمومية، من خلال قصيدة شعبية  عنوانها (مضايف هيل) . لاحظ ، هنا،  كلمة (مضايف) جاءت  واضحة المعنى بالعامية  و الفصحى و كذلك مفردة (هيل).

جاء في القصيدة حسب تأشير الربيعي البيت الشعري التالي  :

من دمّج.

خذينه العرسة خزّامه

خذينه بركعّ لحزنه..

رسمنه خنجر ..بسجنه

وكتبنه حروف بحزامه

هنا ،عزيزي القارئ : تأتي  إمكانية الشاعر مظفر  النواب ، عظيمةً،  في مساهمته ،  التقريب بين العامية و الفصحى. إذا ما قمنا بلعبةٍ بسيطةٍ عند  تحويل الجزئيات الشعرية اللهجوية في اشعار النواب الى جزئيات  شعرية فصحى . لتصبح القصيدة الفصيحة كما يلي :

من دمكِ

اخذنا العرسة خزامةً

اخذنا برقعاً لحزنهِ

رسمناه خنجراً بسجنهِ

و كتبنا حروفاً بحزامهِ

هل هناك اسهل و أوضح من هذا التقريب بين (اللهجة) و (اللغة) ، بين العامية و الفصحى. انها محاولة تكوينية، مجردة و فردية،  قام بها الشاعر مظفر النواب بعلامةٍ اسلوبيةٍ ، تقبل الفهم   التوحيدي.  انها قصائد وصفها الناقد الربيعي بالقول الصافي : (تتسم قصائد النواب بالإبداع , فكانت بضمير الجماعة لكل القصائد الوطنية والتي تتعامل بعذابات الشعب , أما القصائد العاطفية فالشاعر يكتب بضمير المفرد المتكلم لأنهُ شأنه الأنا العليا , فكان الشاعر يستولد الأفعال من مسمياتها وأسمائها, وبسبب تربيتهُ البيئية على شاطيء دجلة, ونضاله في أهوار الجنوب , فقد اتخذ في قصائده مفردات " القصب , الهور , الشريعة , الطين , السقي , السنابل , الكاع , الشمس ).

في الشعر الشعبي جاءت جميع مفردات ديوان (للريل و حمد)   للتقرّب من الفصحى ، من اجل اعادة الحوار و الاتحاد بين المفردة العامية و المفردة الفصيحة . ادرك الناقد ،  علمية الملاحظة  اللغوية عند الشاعر.  هذا الادراك  النقدي يفضي ، حتماً، الى نشوءِ مهاراتٍ ايضاحيةٍ، بالرغم من نشوء صعوبة جانبية أخرى في رؤية المنظور الصوري في الرمزية النقدية.

كما ادرك الناقد  أهمية و ضرورة ان يكون للشاعر دوره في تقديم القصائد، على وفق خطٍ بياني متصاعدٍ،  لضمان تطوّر علاقة الانسان مع ( اللغة) لأن هذا التطور يلعب دوراً مهماً في رفع مستوى المعرفة الانسانية من جهة و رفع الخبرة الانسانية ، عموماً، من جهة أخرى . من هذا المقصد المظفري الواعي صدرت اشعار الريل و حمد بخصائص مفردة لغوية جديدة جددت ذهنية القارئ بكلمات ( هودر ) و ( قطار) و ( الريل) و عشرات غيرها ،مما أوجد علاقةً حيويةً كبيرةً في تقريب لغة أهل الريف مع لغة أهل المدينة. لا شك انه ليس عبثاً مواصلة تكرار الاهتمام غير العادي،  بكل عرضٍ من العروض النقدية،  التوضيحية،  ، بهذا الصدد، لأنه  أعاد و يعيد الضوابط القصدية ، لكل مفردة من مفردات اللغة العربية الى أصولها الشعبية،  في مجموعات الشعراء الشعبيين من أجيال ما بعد ضربة (الريل و حمد) بضرورةِ رؤية تفكيك الصعوبات الى اجزاء ذات نسقية اصلية ، سواء كانت ازدواجية أو انفرادية  ، في الفهم و التعبير بالحالين ، حال اللهجة العامية و حال اللغة الفصحى  . 

اصبح ممكناً توجّه الشعر الشعبي نحو الديجيتال، المنتشر في النوادي و المنازل ،  للتقريب بين افراح الناس و همومهم بلغةٍ واحدةٍ ، تمهيداً للتفاهم بين أهل الكويت و الجزائر ، بين أهل العراق و المغرب المراكشي، بين أهل الغوطة الدمشقية و اللهجة التونسية  وغير ذلك من تسهيل حل عقدة العلاقات الداخلية بين (اللهجوية) و (اللغوية) على لسان افراد الأمة العربية ، الضائعين بين حرية النَفَس و حرية الجسد وهم لا يتورعون الى  الرجوع و التخلف و الانحدار في لغتهم العربية، حين يصرّ بعض رجال الدين السياسي بصفة خاصة ، على استخدام القسر البوليسي و الاذلال الفكري بأساليب حنبلية لا تتوافق مع واقعية  عصر المدنية ، السائد في كل مكان ،  التي أحدثت تغييراً هائلاً في الثقافة اللسانية الجمعية لكل الشعوب   . تعالوا لمشاهدة  بعض  أغاني الفنانة المغربية - العراقية ( شذى حسون) مفهومةً في البلدين، المغربي و العراقي ، لأنها وُلدتْ من أبٍ عراقيٍ و أمٍ مغربية ،  بعد ان كان مستحيلاً ان يفهم المراكشي لهجة الشقيق البغدادي . من يدري عما تقدمه و تطرحه الأغاني و الموسيقى من مؤثرات و تغييرات على روح الاغنية العربية الإيجابية على اللسان العربي و على العلاقات العربية ، خاصة إذا ما تخلّى موسيقيون عرب عن تخاصمهم مع شعرٍ متهمٍ بـ(العقائدية) و (التقدمية) و (الشيوعية) و غير ذلك من الصفات الملصقة بمواهب شعرية، عربية،  عظمى .

مثال اللغة المتقاربة في نموذج (الريل و حمد) بمجمل القصائد المظفرية ، هو القادر على التقريب بين عقول الناس من العرب ، حين يدركون (بعض) غاياتهم بمعطياتٍ موسيقية -  غنائية حاسمة ، خاصةً بين صفوف الشبيبة العربية. أصبحتْ هذه التبعة ، بمنطقيةٍ غير متوقعة،  من خلال اغنية (الريل و حمد) بغريزةٍ صوتيةٍ استرضى فيها لسان الفنان ياس خضر، الكثير من هواة الاغنية العراقية .  لحقتْ به أغنيات عديدة أخرى ، تحوّلت فيها اعتمادات الشاعر مظفر النواب إلى أغنيات شعبية او ثورية ، مثل قصيدة (جرح صويحب) و هي  قصيدة مظفرية توفرت لديها أهلية فنية في خطاب موسيقي من صنع الفنان سامي كمال . او مثل قصيدة الشاعر زهير الدجيلي (يا طيور الطايرة) حين التزمها فنان موسيقي  شاب (كوكب حمزة) محولاً إياها الى مثالية غنائية بصوت الفنان الغنائي  سعدون جابر، ما زال ترديدها منذ اكثر من 40 عاماً،  كما لو كانت وراثة بيولوجية ذات خبرة زمانية، لا تستطيع الأجيال الشبابية ، العراقية ،  المتعاقبة غضّ النظر عن الاستماع إليها  .  

بهذه الوسيلة النقدية في تعبير  طموح الناقد نبيل عبد الأمير الربيعي تكون خلاصة (الفعل النقدي)، الذي مارسه و يمارسه  أن يكون خالقاً، مكملاً،  لعمل الشاعر المبدع و المشاركة، جميعاً، بعمليةِ رفع مستويات المنطق التاريخي بممكناتهِ اللغوية لإنقاذ اللسان العربي من عسر اللهجوية ، المتقاطعة مع التاريخ الحديث، تاريخ الدهر العلمي – التكنولوجي .. كل حركة تقدمية لا تقاس قدرتها إلّا على زمان البيئة و مستلزماتها بين امس اللغة اللسانية و غدها.  

إنّ المطالعة الابجدية ، الربيعية،  نطقتْ وجودها من خلال مواصلة التجريب الشعري النقدي و تحليلات تناقضاته و تكيفاته . يستلزم ،منا، جميعاً شمول موقف الكاتب نبيل الربيعي  و موقف جميع المؤمنين بمغامراتٍ شعريةٍ شعبيةٍ كبرى،   بالثناء  الكبير لما قدمه و يقدمه و يقدمونه ،  من معطياتٍ ظاهريةٍ وبياناتٍ نظريةٍ حول المغامرات الشعرية المظفرية ، مضافاً الى تأييدِ محاولاتٍ فعليةٍ  في تغيير أراء القراء ، جميعاً،   في زمان الصعوبة و الصلافة الثقافية القومية العتيقة.  ربما تستمر هذه المغامرة، وقتاً طويلاً، أو محدداً،  حتى اكتمال تجارب الأزمنة،  حينما يتاح التنفس الكامل للحرية في بلادنا و البلاد العربية الأخرى ، كلها .    

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

يتبع

عرض مقالات: