هل البساطيل تمثل علامة محلية، عراقيا أم اقليميا فحسب أم انها فعل عالمي؟ هل هناك يتحول الشاعر الى مؤرخ.  أي اتخاذ التاريخ وسيلة ومصدرا لصناعة القصيدة! أم إن المؤرخ، كاتب الحدث التاريخي بإمكانه أن يغوي القارئ للدخول الى التاريخ من بوابة الشعر ؟

"بساطيل عراقية – كتاب شعري" ربما يمتاز عن غيره من التجارب حيث يعمل الشاعر  مقداد مسعود  على الاستفادة من مناهج البحث والاستقصاء في الكتابات السردية – الدين، الرواية, السحر, التاريخ, الجغرافيا  في ايجاد مستندات توثيقية يستفيد منها في صناعة المتخيل حيث لم يعد الشعر والسرد كمفاصل أدبية إبداعية بعيدة عن المغمور والمعاد مكتفين بالسطحي من الحياة  حيث الوضوح وعملية التقبل. بل يعمل على الذهاب بعيدا عن المخبوآت والمهملات.  حيث جوانب التخصص الذي لا يثير سوى شريحة الاختصاص. والشريحة المدرسية والمناهجية.

الشاعر والسارد هنا يتخليا عن التدوين فقط. ليجدا نفسيهما مكتشفين. حيث نخص الأعماق بتولدات غير معروفة  وغير منطقية، تولدات تنتمي الى المصادفة ربما أو التناقض او الهجيني وربما التي دخلت أو ستدخل مرحلة الانقراض قبل ان تكتمل الا انها سوف تترك وراءها تفاعلات يشار اليها من خلالها

(1)

ما الذي يريد أن يقوله او يؤكده الناشر الدكتور. باسم عبود الياسري على الصفحة الأخيرة من الغلاف؟ هل هي دعوة الى القراءة؟ ام الى الدخول الى التاريخ كمحرك مستقبلي ام ان الشعر استطاع ان يوفر فرصة للواقف خارجه، الناشر لكي يدلو بدلوه.

(2)

أم انها حالة تنتمي الى الموجهات.  والتدخل في شؤون القارئ والقراءة.  أم ان دار النشر تحاول ان تجذب انتباه المؤلف الآخر الى وجود دار نشر تهتم بالمستجدات الابداعية! أم انها كل هذه التوقعات، المقترحات مجتمعة.

كم من المخيلة يحتاج التاريخ كأفعال واحداث تنتمي الى الثوابت.  الى كائن لا يمكن تغيره الا ضمن المخادعة و التزييف وتشويه الحقائق، الوقائع.  إلاّ أن الشعر – وهذا ما تؤكده المخيلة – بمقدوره أن يقول و أن يغّير و أن يثبت وأن يشك وأن يخلع يقين القارئ.  بعيدا عن محاولة الإساءة الى التاريخ.  من غير أن يتحول الى مزوّر ومحرّف للوقائع.  من غير أن يقول قائل ما.  إن الشاعر سارق ولص ومحتال.  الشعر الكائن الوحيد الذي يدخل إلى فوضى وثوابت التاريخ ويخرج محملا بالرضا من قبل الآخرين المؤرخين والقراء.

"مقداد مسعود" يمسك بمربط الفرس.  بقدرة الشعر على أن ينتقي وأن يأخذ وأن يترك ويستحسن ويعيب من غير اتهامات بالخيانات.

قد تتعدد الإشارات بين العامة من الناس للإشارة إلى القوة السوداء قوة السلطة الحاكمة: "السدارة, البيرية, الخوذة, الخاكي, البسطال" ولان الشاعر يلتقط ما يمثل  أسوأ ما في السلطات من إشارات لاستغلال القوة المفرطة في حزب الآخر المجرد من كل ادوات وعلامات القوة للمواجهة غير الوعي والمعرفة والفكر. 

في "بساطيل عراقية" يعود الشاعر إلى البحث عن التجربة الشعرية.  حيث يتشكل الكتاب الشعري.  فهو الكائن الباحث عن وحدة القول عبر الحدث الواحد المتشظي.

في معظم منشوراته الشعرية، كتبه يختار الشاعر محورا - وليس غرضا – اساسيا ليبدأ بالبحث عما يدخل اليه.  عما يخرج منه.  فهو يكتب القصيدة التي تنتج القصائد.  حيث تتشكل الاضاءات المتعددة.  فهو لا يعاين  عبر العين المجردة.  بل يجد القارئ أن عين الشاعر ليست عين الكاميرا.  حيث تتشكل اللفظة الواحدة.  بل أن المنظر الاخر للنص الشعري الذي يتشكل عبر عين الشاعر هو نص دائري بإمكانه أن يعاين ما يحيط به.  وبدرجة 360، درجة، عين الشاعر هنا تذّكر القارئ بالعين الحذرة القلقة التي تحاول أن لا تفلت  عنها حركة او حدث انها العين المركّبة.  من خلال تعدد العدسات اللاقطة .  هكذا تتشكل تجربة الشاعر في الكتابة.  وفي العديد من مجاميعه بل حاله حال الباحثين الآثاريين الذين لا يكتفون بما يتوصلون اليه من استبيانات ظاهرة.  بل يحاولون الوصول الى العلل والاسباب. والمكونات الاولى للحدث. أيهما كان يمتلك السلطة على الآخر؟ الشعر أم التاريخ.  المتحرك أم الثابت.  أم قدرة الشاعر على استخدام الانتقاء والتخيل في صناعة تاريخ شعري. 

أن تجربة كهذه قد لا تتوفر للكثيرين من الشعراء او للكثير من المؤرخين.  فيجد الشاعر نفسه منساقا    خلف حركة المباشرة. حيث اللغة الصحفية المباشرة. أو الحدث التاريخي المعلب، الجاف.  إلا ان التاريخ حيث ينتمي الى خصوصية ما -هذه الحركة الوطنية وموقف السلطات منها – يقدم التاريخ الكثير من التجارب والليونه واستقبال التخيل من اجل انتاج موقف شعري يعتمد التاريخ في صناعة التجربة الشعرية. 

(3)

في تجربة كتابية سابقة استخدم الشاعر إشارة النجمة أو الوردة كإشارة للقصيدة بدلا من العنوان – في المحور الثالث "قسطنطين كافافي: بتوقيت أحمد عرابي" بعد هذا الاستخدام كما لم يكن قد استنفذت الإشارة إيحاءاتها بوجوب قيام القارئ بصناعة العتبة، أو الغائها.  هنا تتكرر التجربة لا ضمن سلطة الاجترار، عدم المعرفة.  عدم توفر القصدية.  بل تحت سلطة غياب القصيدة الشعرية وحضور التجربة الإبداعية حيث التواصل لا التفاصل. حيث يتحول الجزء الى مكمل سواه.

القارئ المنتج مقداد مسعود سيجد حضورا شاملا لتاريخ منتقى وحضورا بهيا للفعل الشعري.  فيغيب التاريخ الجامد. ومعه ما ينتمي إلى الشعر التعليمي.  ليحل المتخيل الوسيلة الأكثر وجودا من اجل صناعة مختلفة لتاريخ ثابت.  في الفعل الشعري يتخلى التاريخ من ثوابته اكراما للشاعر.  فالشعر لاطاقة له غير تقبل التاريخ كفعل خام.  يقدم الى القارئ فهناك شتى من الفوضى المقننة الواجب حضورها لحظة قيام الشعر بواجبه الذي يعيد الى الاحداث شيئا من الحضور الحياتي.

الكثير من الأحداث تأتي عملية الإحياء فتمضي إلى النسيان.  وليس إلى المهمل.  وذلك عبر غياب الحامل، الناقل.  هذا الكائن التاريخي القادر على العودة إلى الحياة من خلال استفزاز الشاعر والقارئ لسواه.

لقد كان تاريخ صراعات العربي عامة.  والعراقي خاصة ارضا خصبة للعديد من التجارب الروائية والمسرحية العراقية.  وكذلك الحال في السينما والتلفزيون والفنون التشكيلية.  وقد كان التاريخ الحديث العراقي فضاءً رحبا لإنتاج أفعال سردية.  استطاع الروائي والأديب العربي أن يبحث وان يجر في عمق الأحداث.  وكذلك استطاع الشعراء العراقيون الوصول إلى هذا الفضاء التاريخي ضمن ما يسمى القناع – على المستوى الفردي – عبر الاستفادة من الشخصيات التاريخية "زعماء, وقواد, وسلاطين" استطاعوا أن يؤثروا وأن يدبروا شؤون الأحداث التاريخية وأن يغيروا مساراتها.   وكان للشعراء المسرحيين أكثر من مساهمة في صناعة نصوص تعتمد، التاريخ الفردي والجمعي لحمة و سداة.  عبر تقديم العديد من الأحداث المعاصرة والوقائع التي تزخر بها كتب التاريخ العربي والإسلامي والصراعات الدموية والحروب التي كانت تشيد المواقف المتبادلة ما بين الحكومات وحركات التسلط والغزو والاجتياحات.  وكذلك ما بين سلطات الدولة وشرائح الإنسان المسحوقة فقد كان الفعل المسرحي أكثر من حضور في الكشف عن الصراعات التي كثيرا ما كانت تعتمد الالغاء صراعات الأعراق والأديان والمذاهب.

مقداد مسعود في "بساطيل عراقية" يعمل على الاستفادة من جوانب مهمة من حكم العسكرتاريا الذي تسيد علاقات السلطات الحاكمة بالشعوب والامم المحكومة والمغلوبة على أمرها.  رغم تعدد اتجاهاتها في علاقاتها مع الجماهير متخذا من اليسار العراقي خاصة ومواقفه  من هذه الحكومات ودوره في فضح ومقاومة الاستبداد والاستعمار.  هذا التاريخ الذي يشكل الكثير من نقاط الاضاءة في صناعة الوعي ودور الدول الكبرى في تحويل البلاد الى مستعمرة تدار من قبل عسكريين فكريا وأن لم يكونوا مسلكيين.  وقد استطاع الفكر الاستعماري أن يوفر لتلك السلطات فكرا يعتمد السلاح كوسيلة لمواجهة الآخر، الجماهير– الشعوب.  وبذلك تسّيد الفكر الاستبدادي الذي يعتمد الفكرة السوداء – الحياة السياسية طيلة  قيام الحكم الملكي.  او منذ قيام ما يسمى الحكم الوطني الذي قام تحت حماية الباب العالي والانتداب البريطاني.  ورغم ما يسمى الاستقلال وظهور الدولة العراقية ما بعد عام 1920.

"مقداد مسعود" من نقاط، علامات التناقضات والتضادات التي سادت العلاقات ما بين الحكومات والجماهير عامة وما بين الحكومة آنذاك وافكار اليسار العراقي التي تدعو الى التحرر ومقاومة الاستعمار ونبذ العبودية والتخلص من التبعية السياسية والاقتصادية.  هذه العلاقات المتضاربة التي سادت العلاقات طيلة ما يقارب نصف قرن.  هذه الصراعات التي كانت – كما أرادها الشاعر – أن تشكل النسيج الشعري الذي استطاع  مقداد مسعود أن يقيمه محاولا فضح السلطات العسكرتاريا، البساطيل والاشادة      بدور الجماهر الحفاة مع الاقدام الحمر كإشارات وعلامات تعتمد الصدامات في صناعة المواقف.

هل استطاعت التجربة الشعرية أن تنجح في اتخاذ التاريخ، الصراع وسيلة لصناعة الفعل الشعري؟ وهل تمكن الشاعر من دخول التاريخ متذرعا بالمخيلة الجامحة التي الى جانيها فكر ووعي ومعرفة.  يمكن من خلالها للشاعر أن يقول الكثير بعيدا عن الاعتراضات ليتحول – مقداد مسعود – من شاعر وناقد فحسب الى شاعر وناقد للتاريخ.  شاعر ومؤرخ.  ليصنع بين يدي القارئ شعرا آخر ينتمي إلى الشعر اكثر من انتمائه الى الحدث. 

هذا الشعر الذي من طموحاته الإشارة لما يجب أن  تضاء جوانبه.  وأن يكون الانسان العراقي اولا على تواصل مع الماضي الذي يشكل الداينمو، المحرك لمستقبل آخر.  المتلقي لمحاور – بساطيل عراقية – عسكرتاريا  قيادية عراقية حيث القوة هي الحد الفاصل بين الحكومات والشعب.  بين السلطات والفكر الذي يحاول ان يغني  حركة المجتمع.  حيث تتشكل ثنائية التذكر  والنسيان , الحوار والبندقية, الحكومات والجماهير , البسطال والقدم الحافية، الحمراء. إضاءات الشاعر افعال المؤرخ توفر للقارئ اكثر من محاولة لمعايشة المشي.  او ما يمكن ان ينتمي الى العموم.. الشاعر يكشف والسلطات تخبئ.  وما بين المكشوف والمضموم يتقدم الانسان الشاعر والمؤرخ في شخصية مقداد مسعود. 

مقداد مسعود شاعر صاحب تجارب. انا كشخص متابع، قارئ اجد في كل كتابة، كل كتاب شعري تجربة خاصة تحاول الإمساك ببنية شعرية لقصائد مختلفة.  هو لا يكتب قصيدة او مجموعة قصائد بل يخوض مجموعة شعرية جمالية.  يمكن من خلالها الاعلان عن نفسه كشاعر مجتهد.  هكذا هو في – بساطيل عراقية – تجربة الكتابة في  تاريخ اليسار عامة والعراقي خاصة. هل كان الشاعر مطمئنا لأفعال المؤرخ والتاريخ؟ أم أن الشعر كان يوفر له أكثر من وسيلة حماية خوف من السقوط في تقريرية الحدث. ومباشرة الاستقبال؟ لقد كان الفعل الشعري في موقع لا يحسد عليه وسط المنظومة العسكرية حيث قدرتها على مصادرة الجمال الذي هو حجر الزاوية في الشعرية : التاريخ فعل قامع غير قابل للتعبير لسواه لا يعترف بالتهاون والتنازلات. أوسع المجال للآخر. من أجل الاثبات والإعلان عن الفعل الحياتي.

عرض مقالات: