بدأ هديب الحاج حمود رحلته السياسية بوقت مبكر في هذا العالم، ممثلاً بالقرية والأرض التي أراد أن يطبق فيها أحدث وسائل زراعة الرز، وتوفير الماء لها، منذ أربعينات القرن الماضي، ودوره المساند للانتفاضتين عام ٥٢، و١٩٤٥ في مدينته الشامية.

هديب الحاج حمود واحد من أهم الشخصيات السياسية والوطنية التي ألتقيتها بعد أسابيع من إنهيار النظام عام ٢٠٠٣، كنت أتخيل أنه  سيودع أسراره في حوار أعددت محاوره، وضبطت مداخله لمشروع كتابة عن بعض الشخصيات المهمة، لجريدة القاسم المشترك، حينما كنت مديراً لتحريرها، أستحضر الآن تفاصيل ذلك اللقاء، كنت ألحّ على هديب في الإجابة عن أسئلتي، مدفوعاً بحماس الصحفي الذي يبحث عن الجديد، أو ربما الإثارة، والسبق الصحفي، وكانت أسئلتي تدور حول توقعاته، واستشرافاه لمستقبل العراق ما بعد الاحتلال، لم أدرك لغز صمته، وامتناعه عن الإجابة، ربما كان في سره يهزأ من اندفاعي (وهو غير ذلك بالطبع)، لأنني كنت غير مقتنع بعذره ومبررات امتناعه، غير أن الاحداث اللاحقة أثبتت لي صواب موقف هديب الحاج حمود، وأدركت ان صمت حمود معادلاً لوعي كامل بحجم الكارثة.

ليس من الميسور على الباحث عموماً الكتابة عن شخصية وطنية مثل هديب الحاج حمود، تستوفى فيها شروط الموضوعية والصدق، إلا ان (الشقيق) محمد الحاج محمود، كتب دون اجتهاد، أو نقل عن مصادر، لأنه إبن البيت الواحد، والأسرة، والعيش المشترك، فتوقف عند أهم مفاصل حياة هديب السياسية والاجتماعية، في كتابه الصادر عن دار المدى عام ٢٠١٩،  بعنوان (هديب الحاج حمود شيخ السياسة البيضاء)... بتقديري ان محمد الحاج محمود واجه صعوبة بالغة في أن يتجرد عن عواطفه كأخ، وهي اشكالية تواجه الكاتب حين يجد أمامه حقائق عاشها عن قرب،  شريكاً فيها، متأثراً ومتفاعلا بأحداثها، مطالباً أن ينقلها بأمانة للقارئ والتاريخ، دون إنحياز للعواطف ومشاعر الأخوة، من المؤكد ان المؤلف أخذ ذلك بالحسبان، وكتب من خارج(المنزل)، بصفته مراقباً وباحثاً وأكاديمياً ضليعاً في القانون.

وتأكدت لي منهجيته الصارمة في الوقوف مع الحقائق الموثقة لحياة هديب التي لا تشير إلى أدنى تنازل عن الوطنية في سيرة هديب، كان واضحاً يتمتع بإرادة فعالة، وموقفاً ثابتاً من قضايا الفلاحين، مؤمناً بمبادئه، ومنهجه الفكري، هنا تكمن القيمة النبيلة لمواقف الإنسان، والمعنى المضمور في المواقف الأخلاقية، والمضامين الصافية لدى (السياسي)، وهو يخوض سلسلة مواجهات صعبة وملتبسة، في زمن الجمهورية الأولى عام ١٩٥٨، متأرجحاً بين مأمول ومتخيل، وبين أهداف كرّس حياته من أجلها، لم تكن طوباوية.

ظل هديب على قناعة ان أفكاره ومنهجه الوطني، سيجدان لهما نوعاً من القبول، وباعتقاد راسخ فيه، ان هذا الطريق هو الضمانة لحل مشكلات بلد متعدد القوميات والأقليات والأثنيات والطوائف، كان يكتفي بالموقف المعتدل، لا تقوده كراهية أوغيض وإنفعال حاد، فترك اثراً  لا يمحى، يحمل كثيراً من معانيه الشخصية، وتباريحه الأخلاقية.

توزع الكتاب إلى ثلاثة فصول بمباحث عديدة، تناولت النشأة والنشاط السياسي المبكر، والانتماء للحزب الوطني الديمقراطي المبكر، ودوره السياسي قبل وبعد تموز ٥٨، وإستعرض المؤلف كتابات هديب عن الإصلاح الزراعي، ودوره المتميز في تشريع قانونه عام ٥٨ ، واختص الفصل الأخير  بكتابات للعديد من الأسماء المهمة في الوسط الثقافي والسياسي، عن شخصية هديب كأحد رواد الحركة الديمقراطية في العراق ، فضلا عن الملاحق الخاصة بمنهاج الحزب الوطني الديمقراطي، ووثائق أخرى عن استقالته من الوزارة والحزب، ولقطات مصورة عن فعاليات هديب السياسية والمهنية.

المتابع لتاريخ وسيرة هديب الحاج حمود لا يجد عناءً في الاستنتاج ان العمل السياسي في نظره لا يتعلق بالفكر السياسي ونظرياته فحسب، إنما يتجاوزه نحو كيفية التعامل مع الحدث، وتجربته السياسية الغنية تختلف في بعديها النفسي والاجتماعي و(الطبقي)، عن تجارب سياسيين آخرين عاصروه، من داخل حزبه أو من أحزاب سياسية أخرى، فهو اتخذ مواقفه على قناعات مؤمن بصحتها، تكاد تقترب من اليقين، والباحث في هذا النموذج عليه تجنب الوقوع في فخ المنظور الأحادي الجانب، فهناك إتفاق على مكانة نهجه الوطني المتميز، وعلى نزاهته وإخلاصه، وأهمية عطائه، إن أية استعادة في قراءة سيرته الشخصية، ينبغي أن تعتمد إنجازاته الباهرة في مواقعه الوظيفية، وحضوره المتميز فيها، تتلخص بثراء تجربته الإنسانية والسياسية.

إن محاولة محمد الحاج حمود، تركت الباب مفتوحاً للباحثين، في إكمال دراسة تاريخ هذه الشخصية ودورها الوطني، وتسليط الضوء على العديد من المحطات والمفاصل التاريخية في هذه السيرة، ومنها تحديداً الفترة التي تمتد من عام ١٩٦٩ لغاية ٢٠٠٣(فترة نظام البعث الثانية بعد انقلاب تموز ٦٨) التي أغفلها المؤلف، أو تجاهلها دون سبب يذكر في تدوين السيرة، وهي طفرة فوق الأحداث بكل تفاصيلها ونتائجها الدراماتيكية، واكتفى المؤلف في سرده التاريخي على أحداث ما بعد الاحتلال في فصول الكتاب الأخيرة. باعتقادي ان من يتولى هذه المهمة تقع على عاتق المؤرخ والباحث، وإن مسؤولية ثقافية وسياسية تدعونا لمخاطبة الجانب الأعمق والأدلّ في شخصية هديب الحاج حمود، وحسبي ان المؤلف سيأخذ في الحسبان الملاحظات التي أشرنا إليها، في محاولة ثانية لطبع الكتاب.

أستطيع القول إن اختيار عنوان (شيخ السياسة البيضاء) كان موفقاً إلى حد كبير في الوصول إلى جوهر هديب الإنساني، ومكنوناته الأخلاقية، كشخصية واعية منتمية إلى الحياة في مداها المتفائل، ويكفي المؤلف أنه أمدّنا بمعرفة عن سيرة هديب، وقرّبنا إلى عالمه المكتنز  بالمواقف الإنسانية النبيلة، لكن المؤسف ان هذا التاريخ الطويل المشرّف، لم يدون بمذكرات خاصة لهديب (حسب علمي)، وهو تاريخ لا يمثله شخصياً، إنما هو في جانب كبير منه، تاريخ العراق السياسي الحديث، ويشكّل بمجمله المعطى السياسي لمرحلة مهمة من تاريخ العراق، كنا بحاجة الى دراسته وتأمله. ومراجعته، في حياته تجتمع كل مآثر الرجال الكبار، أقول دون مبالغة: انه حمل تلك المآثر معه إلى العالم الآخر، ولم يفصح عنها، ومثله من معاصريه، الشخصية الوطنية والقومية ناجي طالب، الذي ترك أسراره طي الكتمان، بدون تدوين، وللأسف أيضاً، ظلّ ممتنعاً من التصريح، والكتابة.

عرض مقالات: