فضلت السيدة هالكــه ريشتر البقاء في غرفتها صباحـا إلى آخر دقيقة متاحة لها، قبل أن تأخذ طريقها إلى الردهة رقم8 في الطابق الرابع بمستشفى اليزابيث في مدينة “ كولن “ لتبدأ عملها في الوقت المحدد، تقع غرفتها في المبنى الملحق بالمستشفى، حيث تقع غرف غيرها من الممرضات، من اللواتي ترى الإدارة ضرورة عدم مغادرتهن مكان العمل إلا في الإجازات الأسبوعية وأثناء عطل المناسبات. قبل نصف ساعة استيقظت السيدة هالكه ريشتر من نومها، سار الوقت معها بشكل حسن، انتهت أخيرا من ارتداء الملابس بعد أن دققت في بياض بنطلونها فوجدته مقبولا وربتت أناملها فوق ردائها الأبيض مستحسنة هيأته، كان عندها نصف ساعة أخرى وهذا ما يجعلها مطمئنة أكثر الى أن كل شيء يسير على ما يرام. كانت ستارة النافذة الوحيدة منسدلة شفافة وناعمة، و من خلف الزجاج السميك تتراءى بنايات المدينة العالية وقسم من برج تلفزيون كولن، كل شئ شجعها على تحضير كوب من القهوة تشربه قبل أن تخرج، ستترك أمر شعرها تمشطه فيما بعد، كذلك جوربيها اللذين وضعتهما على مسند الكرسي، وحذاءها الملقى على جانبه بعد أن دفعته بعيدا. جلست على طرف السرير، كانت تقلب صفحات إحدى المجلات وكوب القهوة على المنضدة عندما فوجئت بباب الغرفة يفتح وبرجل يلقي عليها تحية الصباح وهو يدخل بكثير من الضجة مع الأشياء التي أدخلها بعده، كان واحدا من المنظفين الذين كثيرا ما يتغيرون أو يتناوبون فيما بينهم ممن يأتون غالبا بعد أن يفرغ المبنى من شاغليه، مع ذلك يحتاج الموقف أن توضح له أن ما فعله كان خطأ من وجهة نظرها، عليه أن يدق الباب عليها أولا، فتقول: من الطارق؟ لكنها لم تقل شيئا و لم تهبّ معترضة، لم تكن في يوم ما من اللواتي يسمحن بأن يدخل عليهن أحد وقتما يريد، بالنسبة لها.. أن غرفتها هذه هي المكان الوحيد في المستشفى الذي يتوفر فيه طابعها الشخصي، لم يرها أحد وقد خلعت الدور الذي هي فيه وارتدت ملابس أخرى غير ملابس العمل، لم يرها أحد وهي تتصرف في غرفتها مثل أي واحدة أخرى بحرية تسمح لها بإلغاء دور الممرضة التي في داخلها، هناك موقف واحد فقط عليها الآن فعله بعدما فاجأها الرجل بدخوله للدفاع عن ما تؤمن به وهو أن تلبس جوربيها والحذاء وأن تمشط شعرها على عجل وتخرج، لكنه لم يعطها فرصة لأن تفعل ما تريد عندما ترك ما معه ونظر إليها، فأبقت رأسها أمامه مرفوعا لا يرمش لها جفن، أما شعرها فقد انفكت عراه و سال على جانبي وجهها الذي بدا نحيفا أكثر، كانت قد تجاوزت الأربعين، ومع أنها نحيفة الجسم لم يقل لها أحد ان بها حاجة إلى المزيد من الاهتمام بنفسها، ولكنها سمعت بعدما اقتضت بعض الظروف من يقول أنها جريئة ولا ترضى بالخطأ، وتحسن التصرف ولا تطالب بما يخصها فقط، و عندها ولاء لمن يستحق الرعاية من أولئك المرضى الذين تحت إشرافها.

من النادر أن تنسى أسماء و وجوه من مروا عليها من أولئك، و بالنسبة للبعض منهم، كانوا يتصلون بالردهة رقم 8 ليطمئنوا إلى أنها ما تزال موجودة هنا.. كانت تصحح لمن يخطئ معلومة حدثت في المستشفى، و شجعت من ضعف الأمل عنده.. رأى الآخرون نشاطها في مجال حقوق الأفراد، على الرغم من أنها نادرا ما تتحدث في هذا الموضوع؛  يرون أيضا أن نشاطها كان مقبولا في الدفاع عن حق المرضى بتحديد وقت يسمح فيه لحيواناتهم البيتية بزيارتهم، فذلك يعود بالفائدة لكل من الطرفين.. هم يرون اهتمامها بالأسورة والخواتم وأنواعها وأشكالها و مصادرها دليلا على رقة فائضة في نفسها، علما أنها لا ترى ذلك في نفسها، فلم يحصل أن طوقت رسغها بسوار، على الأقل منذ أن عملت ممرضة، ولم تضع في إصبعها سابقا غير خاتم الزواج.

قال الرجل: سيدة ريشتر،غرفتك بها حاجة لأشياء تجعلها مريحة أكثر.

لا شك أنها عرفت من خلال الكلمات القليلة التي نطقها بشكل غير متقن أنه أحد المهاجرين الذين وجدوا لهم عملا في هذا المستشفى، فضلا عن لون بشرته الذي يشير إلى أنه قدم من احدى بلدان الشرق الأوسط أو غيرها، ربما أرادت أن تقول له أرجوك، أنت بالذات لا تتحدث عن الذي يريحني، لكنها لم تقل شيئا.

-  هذه الإضاءة، كيف تستطيعين القراءة على ضوء المصباح المنضدي، لقد طلع النهار، ألا ترين مثلي أن الضوء الذي يدخل من النافذة أكثر جمالا و فائدة؟.

ـ أعرف، لكني أفضل أن تكون الأشياء في غرفتي كما أريد.

ـ هذا مؤسف سيدة ريشتر، أين مفرش الأرض بلونه الأزرق الفاتح الذي تفضلينه، وورق الحائط هذا، لماذا لا يتغير بعد أن تهالك من شدة القدم، أليس من المناسب للسرير أن يكون في الجهة الثانية بدلاً من موقعه الحالي؟ وإذا دفعت المنضدة  هذه الكراسي إلى مكان قريب من النافذة ألا يعطي ذلك الإحساس لمن يدخل الغرفة مثلي بأن المكان صار أكثر اتساعا ؟

ـ شكرا لاهتمامك، الأزرق الفاتح لون جميل، هو لون مفرش الأرض في منزلي.

ـ يمكنني أن أحضر لك بعض النباتات الخضراء وبعض شتلات الورد لو طلبت مني ذلك، فالغرفة خالية منها.

ـ في الوقت الحالي لا أريد.

ـ امرأة مثلك لها منزلها الخاص في مدينة (ديورن) تستطيع أن تصل بالفولكس فاكن التي عندها بأقل من ساعة، منزل لا تنقصه وسائل الراحة، امرأة تعرف ماذا يريد منزلها لأن يكون أجمل منزل، كيف تقنع بأن لا تطل غرفتها التي في المستشفى على نافورة مثل تلك التي عندها في الحديقة؟ كيف لا تكون الستارة التي هنا نازلة من فوق على النافذة كما هناك ؟

أرادت أن تعقب على ما سمعته لكن الدهشة أوقفتها ذاهلة من دون حراك، أن يعرف هذا الرجل الذي تراه لأول مرة اسمها و قد ذكره أمامها أكثر من مرة فهذا أمر طبيعي، ربما قرأه على اللوحة المعلقة بجانب الباب، لكن هذه المعلومات الخاصة التي لم يكن فيها خطأ من أين له الحصول عليها؟ من أين له هذه المعلومات عن المنزل الذي في “ديورن “ و النافورة التي في الحديقة، وشكل الستائر؟ ولم يبق إلا أن تسمع منه شيئا عن الصفحة التي انطوت من حياتها، والتي عاشتها في ذلك البيت قبل عشرين سنة، في بداية عملها ممرضة في مستشفى اليزابيث بعدما أصبحت الحياة مع زوجها لا تطاق فانفصلا عن بعضهما، ترك لها المنزل و اختفى من حياتها نهائيا، سمعت فيما بعد أنه كون أسرة ثانية في غرب البرتغال، وفيما بعد سافر إلى جنوب البرازيل وكوّن له أسرة ثالثة، وبينما كان هو يتنقل بين هذه الدول استطاعت هي أن ترجع الحياة للمنزل الذي تهاوت أركانه، تعطيه رعايتها كلما أتيحت لها فرصة الذهاب إليه، ربما نهاية كل الأسبوع، أخذت تقلع الحشائش كلما نمت في أحواض الورد، وتقطع الفروع التي لا أمل من وراءها في بعض الأشجار، بعد ذلك بسنة اشترت ستائر جديدة، وبعدها بسنتين أنشأت نافورة في الحديقة، تستطيع من غرفة نومها رؤية تدفق الماء في مفاصلها.كانت مقتنعة أنها استطاعت مع مرور الوقت أن ترى في شفاء المرضى راحة له.

مرت لحظات، انتظرت من الرجل أن يبدأ عمله، أن يشغل المكنسة الكهربائية مثلا، أو يبدأ بالحمام الملحق بالغرفة لكنه قال وهو يلاحظ المجلة التي تركتها على المنضدة :

ـ أنا في حيرة، ماذا يمكن أن تقرئي هنا، ما هذه التي تشغلك عن أشياء أخرى كثيرة ؟

لم تصدق أنها كانت تسمع منه ذلك، فقالت :

ـ أنك بالتأكيد لا تعرف ما تقول و ربما تجهل الحدود التي يجب أن تكون بين كل شخصين لا يعرفان بعضهما.

ـ أرجوك دعيني أوضح لك موقفي من هذه الأشياء.

ـ أنا التي أرجوك، ليس لدي الكثير من الوقت لألتحق بعملي.

تقدم الرجل الى الكرسي يسحبه قليلا ويدعوها للجلوس، أرادت أن تثنيه عن عزمه لكن بات واضحا أنه لا يريد أن يسمع منها اعتراضا، بل كان مصمما على أن تجلس لتسمعه، وعندما لم يعد لديها القدر الكافي من قوة التحمل، طلبت منه و برجاء أن يغادر الغرفة إلى أي غرفة أخرى، ثم يعود إليها فيما بعد بعدما تكون قد هيأت نفسها للخروج، ليست أكثر من عشر دقائق على أكثر تقدير.

مع ذلك، عندما خرجت من الغرفة بعد عشر دقائق، شعرت أنها ليست غاضبة من تصرفه معها، و ستنسى الأمر على الرغم مما فيه من غرابة، و في الوقت المحدد كما في كل يوم وصلت إلى الردهة.

بعد ذلك حدثت هناك تطورات أخرى، عندما عرفت من زميلات لها يسكن مثلها في المبنى الملحق بالمستشفى، شيئا عن ذلك الرجل الذي دخل عليها في الغرفة، سمعت من  احداهن بعد يومين من هذا الذي حدث، أنه أعطى الحق لنفسه في أن يفتح دولابها الشخصي بحضورها وراح يقلب في الملابس المعلقة، مبديا رأيه في ألوان الفساتين وموديلاتها وأنها راحت تجادله وتخالفه الرأي أو تؤيده، لكنها توصلت معه إلى حلول وسطى بهذا الشأن، وقد قالت لها زميلة أخرى أنه فتح أحد أدراج دولابها وقلّب في حمّالات صدرها وجواربها وما فوق الجوارب، كان منها ما هو ملفوف بعضه ببعض على طريقة من تنتزعها وترميها في الدرج كيفما اتفق، فأبدى لها انزعاجه من أن تترك مثل هذه الأمور بهذا الإهمال، وقد شكرته لأنه بذل مجهودا لإعادة النظام إلى الدرج وأصبح كل شئ من ذلك في مكانه الصحيح.

تسمع عن ذلك الرجل مثل هذه الأخبار وغيرها كل يوم، تنقلها إحداهن بشيء من العرفان بالجميل لذلك الذي أدخل في حياتها هنا في المستشفى بعض الأمل، و قد تسألها تلك: ألم يأت عندك ليقلب في أدراجك؟ فتسكت.

أخذت تنتظره كل صباح كانت على استعداد لأن تجلس على الكرسي كما طلب منها، لكنه لا يأت، ترجع ظهرا إلى غرفتها فتجدها نظيفة مرتبة، لم يكن يهمها أن تراها كذلك بقدر ما كانت تريد التأكد من أنه مر بها، وليس أحد غيره، حاولت أن تفاجئه في غرفتها عندما انتهزت أكثر من فرصة لتذهب إلى هناك أحيانا في العاشرة صباحا أو بعدها، لكن محاولاتها باءت بالفشل، أحيانا ترى أنه لم يصل بعد أو أنها وصلت إلى غرفتها متأخرة. انتهت السيدة هالكة ريشتر إلى أن مزاجها أصبح متغيرا،  من مظاهر ذلك أنها لم تعد تثق في قدرتها على اختيار الملابس وأنواعها وموديلاتها، من تلك التي تشتريها من المحلات عندما تغتنم فرصة استراحة تكفي للتسوق أثناء العصر، علما أنها لا تحتاج إليها إلا في حالات مغادرتها المستشفى، اشترت في هذه الفترة القصيرة ثلاثة أو أربعة فساتين ولم تكن تفعل مثل ذلك من قبل، و أكثر من هذا العدد بنطلونات وقمصانا، وقد ضمت إلى مجموعتها هذه أنواع من الشالات بألوان و أحجام مختلفة منها ما هو مصنوع من الحرير ومنها من الساتان أو غير ذلك، ودائما أصبح قلقها من أن هذه الأعداد ربما لا تكفيها لأن تملأ بها خزانة غرفتها و الأدراج، وقد كانت تتقصد أن تضع فيها قطع ملابسها الداخلية كيفما اتفق.

كل تلك البهجة التي تأتيها من وراء هذه الأفعال لا تعرف طريقا إلى صدرها.

قبل أن تأوي إلى فراشها، كانت تنظر لكل ما اشترته وقد فتحت أبواب خزانتها والأدراج ولا تدري هل سيحالفها الحظ غدا، هل يأتي ويفتح ويعبث ويبدي رأيه في هذا الشيء أو ذاك، اضطرت أيضا إلى شراء ما لا يعجب أحد ولا يرضي ذوقا، و قد دفعت مقابلها النقود راضية، فهل ستسمع منه تعنيفا لهذا الذي فعلته بإيقافها عند حدها. و في الصباح تجلس على طرف سريرها يائسة تقلب صفحات إحدى المجلات وكوب القهوة برد على المنضدة، وأذنها على الممر، تريد التقاط أية حركة اقتراب من باب غرفتها. وفي الردهة عندما تذهب لا تكاد تتحرك هناك إلا في حدود ما هو مطلوب منها، لم تكن متفائلة ولا متشائمة، وقد بدا لها أن ليس من اللائق ولا حتى من السليم أن يظهر عليها ما يثير شك أحد، أو أن الأفكار قد تذهب بها بعيدا، لم تنزل من عينيها دمعة واحدة ولم يهتز صدرها لقوة النشيج الذي اجتاحها أحيانا، مع أن صبرها كاد ينفد، لماذا يفعل بها ذلك، وما الذنب الذي اقترفته هل اقترفت جريمة بحقه عندما لم تلب طلبه في الجلوس؟ عليه أن يعرف الآن أنها مستعدة أن تجلس. هل الأخريات بأفضل حال منها وقد حظين بكل ما سمعته منهن عنه؟ كانت على يقين أنها سوف لا تفتح له الخزانة فقط إذا طلب منها ذلك، وإنما مستعدة لعمل التغييرات التي اقترحها في الغرفة، متى إذن سينظر في ملابسها المعلقة ومتى سيقلب بأطراف أصابعه ما هو ملفوف بعضه ببعض في أدراج الخزانة قبل أن يضمه بحنان إلى بقية ما في المجموعة.

أوت هالكة ريشتر إلى فراشها لكن النوم بعيد مناله، وكانت قبل ذلك قد قلبت في كل ما اشترته، أحيانا وهي بهذه الصورة تسمع صوت خطوات من كن عائدات من نوبتهن الليلية الى غرفهن، بعض من تلك الممرضات عندما يلوح لهن نور غرفتها مضيئا أسفل الباب يهمسن لبعضهن: يبدو أن السيدة العجوز لم تأو إلى فراشها بعد!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*في عدد الثلاثاء القادم من “طريق الشعب الثقافي”؛ ننشر نقداً لقصة “من الطارق؟” بقلم الناقد ياسين النصير.

عرض مقالات: