تشكّل تجربة عبد الكريم كاصد، الشعرية خصوصاً والثقافية عموماً، واحدة من التجارب العربية الجديرة بالاهتمام. وبالنسبة لجيلنا من شعراء الثّمانينات، فقد مثّل ديوانه "الشاهدة" (في طبعة دار الفارابي 1981) علامة بارزة في الشعر العربيّ الجديد. عند ذلك الديوان الذي كان في رثاء والده "كاصد"، فجاء مترعاً بالفجيعة والألم، لكنه مفعم بالشعر والتخييل، ومن ذلك مقطع قصير نقرأ فيه الحضور القادم من قسوة الغياب: "وقبل موتهِ بلحظتينْ أطلّ في الغرفة، واستدارَ هادئاً يكتمُ في عينيهِ دمعتينْ دعوتهُ أن يستريحْ ثم نهضتُ خلفهُ لأفتحَ البابَ عثرتُ بالضريح".

قبل هذا لم أكن قرأت له من قبل، ثمّ تبعه ديوانه "وردة البيكاجي"، ليتبعه الكثير من الدواوين والانشغالات في القصة وأدب الرحلة والترجمة، عن الإنجليزية والفرنسيّة، ما جعل "مكتبة نتاجاته" عامرة بعشرات الكتب تأليفاً وترجمة، شعراً ونثراً، وصولاً إلى تجربته الشعريّة الجديدة، في ديوانه الجديد "مَن يعرفُ الأرض؟ مَن يعرفُ السّماء؟" (الصادر حديثاً في دار العائدون للنشر والتوزيع- عمّان، 188 صفحة). هنا جولة إطلالة "انطباعية/ تذوّقية" على ملامح من هذا الديوان المختلف في مضامينه وتقطيعه وأساليبه المتعدّدة. 

بدءاً من العنوان، ومن التساؤل المزدوج، نحن حِيالَ عالَمَين؛ عالَم الأرضِ وعالَم السّماء، أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى من تناول الدّيوان، ولكن، في أيّ أرضٍ وأيّة سماء سنجد أنفُسَنا ونحنُ نغوص فيهما؟ أرض الواقع أم أرض الأحلام؟ وهل تلك سماءُ النجوم والأقمار، السّماء الزرقاء أم سَماء الدّيانات والأساطير؟ هي أسئلة عن العوالم التي تثيرها قصيدة كاصد ولغته وتصويره وفلسفته في رؤية الحياة بوجوهها وأبعادها المتعددة.

للشاعر في هذه المجموعة أيضاً أسئلة مختلفة المغزى، ففضْلاً عن السّؤالين في العنوان، سوف يُوقفنا كاصد على أسئلة شتّى، انطلاقاً من سؤال العينين "لماذا لا تَرى العينُ أختَها إلاّ في المرآة؟"، هذا السؤال الذي يأتينا من عالم غير مألوف، وربّما لا إجابة له لكنه مهمّ وجميل ومدهش كعاشقَين لا يلتقيان إلا في العتمة حيث لا رؤية سوى البصيرة، لا البصر العَيانيّ. وبهذه البصيرة ذاتها نقرأ نصوصَ كاصد التي تتنقّل بين الوزن (التفعيلة) والنثر الذي يحمل إيقاعَه الخاصّ. النصوص التي تتنقّل أيضًا بين المشهد اليوميّ والسُّؤال الوجوديّ، وما بينهما الحضاريّ والأسطوريّ والتاريخيّ.

بيتُ الشّاعر

وكما يفهم الشّاعر الشّعرَ، فهو يجسّده بالمتخيّل في "مدينة الشعر"، بل تحديدًا في الطريق إلى هذه المدينة، وقريباً من قسطنطين كافافيس ومحمود درويش، في ما يتعلّق بالطريق إلى البيت، ففي قصيدته "خرائط"، والمقطع الذي حمل عنوان "دليلٌ موجزٌ إلى مدينة الشّعر"، نقرأ: "إذا ما أردتَ الدخولَ إلى مدينة الشعر فإنّ أوّلَ ما يصادفُك في الطريق إلى الشّعر وعوالمه: قريةٌ في القرية نهر يقطعُهُ جسر وبيتٌ لا يسكنهُ أحدُ".

وهكذا، نسير معه في الطريق، نسير في خيالاتنا/ خيالاته، إلى أن نصل فنبصر لافتة كالإصبع تشير إلى البيت، وقد خُطّ عليها بحرفٍ صغير: "هنا يسكنُ الشاعر". فأيّ مكان وأيُّ بيت متخيّل هو هذا، سوى بيت/ مكان الحلم؟ وما البيت هنا؟ ولنلحظ أنّ البيت ليس هو المنزل أو السّكن، فالبيت يمتلك دلالات أعمق وأشدّ رسوخًا في الرّوح، وحينما يصل الشاعر إليه فإنّما يبلغ روحه ومبتغاه ومصيره. هنا نقف على ثمّة قدْر كبير من التجريد في اجتراح هذه الصورة. تجريد لا بدّ أنه يمتلك جذوره الواقعيّة.

ثمّ لا يلبث الشّاعر أن ينقلنا إلى عالم آخر، فأنتَ بحسب طائفة "الزنّ" البوذيّة، ولدخول عالم الشّاعر والشِّعر، أو "للذهاب إلى مدينة الشعر/ عليك أنْ تقطعَ الغابة/ وأن تصحبَ الذئب/ والأفضل ألاّ تذهبَ أبدًا/ هكذا يقول شاعرُ "الزنّ". بعد ذلك، ينتقل بنا الشاعر إلى "دليلٌ موجزٌ إلى غابة الشعر" في صور شبيهة بالسّرياليّة، بل هي السّرياليّة ذاتُها حيث أنت "كأرنبٍ مُسرعٍ يُمسك ساعتهُ بالمقلوب.."، ويأخذنا إلى غرائب العلاقات بين كائنات الطبيعة، لنجد أنفسَنا أمام "شريعة الغاب".

رؤية الحياة

ضمن هذه المسارات يرسم الشاعر "رؤيته" للشّعر وللوجود كلّه، للحياة والإنسان والحيوان، للمُدن والطّرق، وللأزمنة والأمكنة التي تتداخل لتصنع عالم النصّ/ القصيدة، بل عوالمَها المشغولة بمهارة وحنكة عاليتَين. وفي هذا الإطار يرى كاصد "وظيفة" الشّاعر، الذي هو، على نقيض العالم جميعًا من المُوظَّفين، ليس موظَّفاً عند أحد سوى الشّعر، لكنّه على خلاف الموظّفين جميعاً يظلُّ يعمل بلا نهاية، ففي قصيدته "مديح" (بمناسبة اليوم العالمي للشعر)، يرى الشاعر أنّ “الجميع يتقاعدون/ إلاّ الشاعرُ".

هو شاعر يرسم صورة الشاعر، منذ "فرسان تلك العصورِ القديمة"، إلى الشاعر الذي "يهمس في أذن الأبدية العجوز الصمّاء/ أشعارَهُ الباقيهْ". وهو الشاعر الذي يشتغل في التجريب والتنويع على تجربته، فيجترح أشكالًا عدّة، شكل منها يتمثل في كتابة "مَسرحيّة قصيرة جدّاً"، في خمسة فصول وخاتمة، يختزل فيها صوراً من الموت تتجسّد في الحرب ومآلاتها، فـ"الفصلُ الأول: حرب"، و"الفصلُ الثاني: سِلْمٌ أسوأ من حَرب"، فيما "الفصلُ الثالث: أحياءٌ مفزوعون/ يزورون المَوتى"، و"الفصلُ الرابع: مَوتى مفزوعون/ يزورون الأحياء"، وفي "الفصل الخامس: لا أحدَ هناك/ أين ذهب الأحياء؟/ أين ذهب الموتى؟"، وفي الخاتمة يتساءل عن "النهاية" بسؤال الحائر "من يعرفها؟".

وعلى سبيل التنويع المختلف، والتمثّل بنصوص عربية وعالمية، ثمة قصيدتان، واحدة منهما تنويع على الجملة الشائعة "الجميلاتُ هنّ الجميلات" من قصيدة محمود درويش الشهيرة، والثانية بعنوان "صفصافة" وهي تنويع على أغنية الصفصافة لشكسبير في مسرحيّته "عُطَيل". وفي كلتا القصيدتين ثمة مقاربة لعوالم كل من الشاعرين درويش وشكسبير. لا بل إنه يتصادى مع "ليليّات" الموسيقار الشهير شوبان التي تنحو نحو الأداء الأوبرالي: "شُوبان: من "ليليّاتِك" ينبثقُ الفجر الضوءُ خفيف يسّاقطُ كالماء الماءُ خفيف يسّاقطُ كالضوءْ شُوبان "ليليّاتك" فجرْ".

وإلى كثرة وغزارة حضور الأمكنة، القرى والمدن والمقاهي والقطارات والمحطات، عراقية وعربية وعالمية، فثمة حضور بارز للطرق، وفي صور مختلفة ومتعددة، واقعية ومتخيّلة، ويحضر التاريخ كذلك في هواجسه وأسئلته الجوهرية، نقرأ فيها "تاريخُ الإنسان الحيوان الأشباح إذا شئت"، ونقرأ: "هل قال التاريخْ إنّ الموتى  حملوا أسمالَهم ومضَوا قطعانًا  أو آحادًا في الطرقات؟".

وفي قصيدة بعنوان "طريقان"، يختصر الشاعر الكثير من تلك المعالم التي تحدثنا عنها في هذا المقطع "المحطة القادمةُ، القريةُ البعيدة، المزرعةُ التي تلُوحُ في الأفق، السّحابةُ التي تمرّ، الشمسُ تحتجبُ وتسفرُ ضاحكةً، المرأةُ تلوّحُ بعباءتها، الرجلُ يلوّحُ بعباءتِهِ، السكّةُ تلمعُ في الضَّوء، الشجرةُ الوحيدة الخضراء، كغابةٍ، وهي تلمسنا بأغصانها مباركةً..".

وأخيراً، ومن بين الملامح البارزة في المجموعة، كما في تجربة كاصد عمومًا، الاحتفاء بأسلوب الحوار والسّرد، بل "الحكي" والقصّ، وكثيرًا ما يبدأ القصيدة بالفعل، كما في "بطاقاتُ تهنئة إلى آدم".  ثمة الكثير ليقال عن هذه المجموعة المدهشة، لكنها تحتاج إلى دراسات وليس مجرد قراءة "صحافية" كهذه، كانت مهمّتها إلقاء الضَّوء على بعض عوالم الشاعر، وملامح من ديوانه هذا لا الديوان كلّه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* انديبندنت عربية 15 أيار 2020

عرض مقالات: