اختار موقع (Google) كتاباً من كلّ دولة في العالم، مقوّماً إياه بنجوم، أعلاها خمس نجوم، وأقلّها نجمة واحدة، أمّا دواعي الاختيار فمبنيّةٌ على عوامل التحفيز نحو التطور، ولكون كتاب نوال السعداوي يصوّر نضال المرأة، فقد اختير ليكون جائزة للكاتبة على اختيارها الموضوع، بالرّغم من هفواته الكثيرة.

قليلة هي الرّوايات التي تكلمت عن السّجون، لكنّها ازدادت بعد انتفاضة 2011 السّوريّة المستمرّة.

مع أن السّجينات السياسيات في العراق وسوريا يزدن عددا عن مصر، إلّا أن رواية السجن النسائية سجّلت ريادتها في هذا الحقل، برواية "ذكرياتي في سجن النساء". التي تتناول نضال المرأة وعمق كفاحها، وصلابته،في مصر، فقد وقفت منذ أكثر من قرن ضد سيادة الرجل وتحكمّه، وهيمنة الأبوّة، والذّكورة، وإجحاف الوراثة، والسّيطرة الاستعماريّة، وتحكّم العسكر.. فحقّقت أهدافاً كثيرة، قبل الخمسينات وبعدها منها:طرح الحجاب، والنقاب، مشاركة الرجل في التعليم والبحث والتدريس والإدارة، تسنّم المناصب العامّة، إتقان التّمثيل، والرقص، إدارة صناعة السياحة. لكن أنواراً كثيرة خبت بعد سيطرة العسكر ومازالت مستمرة.

نالت "مذكراتي في سجن النساء" للدكتورة نوال السعداوي، شهرة واسعة لكون المؤلفة إمرأة، وصفت ما لقيته في مدّة توقفيها القصيرة في السجن، مشيرة الى مستوى الكشف واقتصار الوصف على الكاتبة، دون غيرها إلا في القليل لأن الرواية أدب خاص، بينما الكتاب السياسي تاريخ موثق.

رواية نوال تظهر تشتتا واضحاً في مراقبة الأحداث، وابتعاداً تاماً، عن مشكلات مصر العميقة، والتي تبدو آثارها في السجون واضحة، كالانفجار السكاني، ونسبة الأوبئة المنتشرة، كون الكاتبة طبيبة بالأساس، لأن وظيفتها تيسر لها الكشف والمعرفة، وضعف التمسّك بالمبادئ، التي أعلنت المؤلفة أنّها تلتزم بها، من الزاوية الإنسانية، وقناعتها بصحة موقفها من هذه النقطة.

هناك بعض المآخذ على الرواية العربية بشكل عام، وهي تضخيم الأنا، كأن لا يرى الكاتب في الكون، أو في القطر سواه، ولا يشعر أنّ الأخر عانى مثله، أو أكثر منه، ولعل د. نوال، واحدة من هؤلاء الكتاب، فهي تشير إلى نفسها، ومعاناتها، وطرق تفكيرها، ومبادئها التي ربّت نفسها عليها في أمكنة كثيرة، كادعائها تبني طريق الكفاح من أجل الناس:) اخترت منذ الطفولة لا أطيع إلا عقلي، "لم يبق لي إلا القلم لأعبّر عن مأساة الفقراء والنساء والعبيد) ص12 (أعيش وراء جدران غير مرئية وأعيش الغيبة والمنفى داخل الوطن) (لكني لا أعرف اليأس. في خيالي حلم حياتي. أن أكتب كلمتي) ص12. ويتردد هذا اكثر من مرة، وهذه نقطة تضعف الرواية، فإما أن يكتب الكاتب رواية، أو سيرة ذاتية.

الإسهاب أينما كان يضرّ بالرواية، ونراه في فصول كثيرة منها، على لسانها، أو على لسان أبطالها، كوصف أحد الحراس دورة مياه المديرين، بصفحتين، ووصف "السجن" " الحشرات" "نقل كلام الآخريات كما هو من دون تشذيب"  "الشاويشة" "ذوبة" "فتحية" "فوقية". ولو اكتفت بالوصف مرّة واحدة، واختصرت الوصف؛ لاختزلت نحو مئة صفحة في الأقل.

لكن الشيء الحسن في الرواية ذكرها لبعض الجوانب الخيّرة عند مسؤولي السجن، فليسوا كلهم أشرار يعملون في جهاز فاشيّ. ففي ذلك الحيّز البائس المتخلّف، هناك من يمتلك صفات خيّرة، وتشعّ في ملامحه ومضات إنسانيّة، "ص43". ففي الطريق إلى المعتقل اوقف "الضّابط" السّيارة، واشترى للكاتبة زجاجة "كوكاكولا" ورغيفين "فينو" داخل كلّ منهما قطعة من الجبن الرومي" (ما الفينو؟ لم توضّحه)، وفي الرواية شخصية إيجابية "الشاويشة" شجاعة وإنسانية، وفي "ص51" تصف ابتسامة مسؤول السجن، "أرق ابتسامة رأيتها على وجه رجل أو أمرأة في كل مراحل حياتي. لا أذكر أنني رأيت مثل هذه الابتسامة على أحد." لكنها تخون ذاتها عندما تتساءل "أيمكن أن تكون ابتسامة حقيقية؟ ثم تتمادى في الولوج في ممر الشك والسوادوية: "أو أن رجال البوليس لديهم تلك القدرة على الابتسام، وهم يقودون الإنسان إلى المشنقة" ثم تتصاعد لهجتها شكاً، حتى عندما يسألها إن كانت جائعة! مظهرة شكها في كل كلمة يقولها.

في طريقها إلى المعتقل، يدخلها الضابط إلى غرفة فيها حارس، ويذهب لتوقيع الأوراق، فتقول له إنها تريد الذهاب إلى دورة المياه، لكنه منعها، لأن هناك مرحاضاً واحداً، للمسؤولين فقط، ثم تنسى قضية دورة المياه، ولم تعد إليها أبداً، إذن لماذا طلبت الذهاب؟ قضية مثل هذه لا تنسى أبداً، والنسيان هنا ضعف فني واضح.

حضرت، سنة 1962 مؤتمراً للقوى الشعبية، ص128، برئاسة جمال عبد الناصر، تصفه: "بشرته سمراء برونزية، عيناه نافذتان لامعتان، عن يمينه وعن يساره وجوه الخ، طرح عبد الناصر سؤالاً: من هو الفلاح؟ وحين صمت الكل، رفعت يدها، قالت: من بوله أحمر. "يعني المصاب بالبلهارسيا". فمُهر اسمها، بملاحظة "تجرؤ غير مطلوب". "ومنذ ذلك الحين اندرج اسمي في القائمة الصفراء".  وفي ص 126 حضرت اجتماعا آخر سنة 70 مع اكثر من 300 مهني ونقابي، برئاسة السادات، فانتقدت تأخّره على الجلسة، نحو ثلاث ساعات لأن التأخير يضيع مبالغ كبيرة في بلد يستعدّ للحرب، وكانت نتيجة النقد (اندرج اسمي في قائمة المغضوب عليهم لأول مرة)، ويبدو أنها نسيت حقيقة ان اسمها ورد في قائمة المغضوب عليهم قبل 18 سنة، أولاً، وكيف سمح لها أن تحضر في الاجتماع الثاني؟ ، ولماذ لم تعتقل خلال هذه المدة ؟

وضعت في السجن مع 14 سجينة، سياسية، في قطعة من قسم يضم أكثر من 300 أخرى من السجينات العاديات: "يتكدس فيها مئات الأمهات، ومئات الأطفال، لكل أم طفل على الأقل، أجساد النساء متلاصقة والأطفال، الحشرات تقرض أجساد المواليد، الأطفال يصرخون، والأمهات يتنازعن.. " وهناك وصف يزيد على ثلاث صفحات للجلبة والأمراض والأخلاق والمستويات والضوضاء التي يثيرها هذا التجمع، فعقدت السياسيّات احتماعاً، لعرض أربعة مطالب على الإدارة "ص 78"، اصلاح المرافق، إبادة الحشرات، خبز ملكي بدل خبز فيه دود وسوس، وضع حاجز يفصلهن عن العاديات. تجاوبت الإدارة ونفذت المطالب كلها. وعلى الرغم من إقرارها بأن السجينات ضحايا للفقر والجهل وقهر الرجال فذووهن يجبرونهن على البغاء والسرقة والتسّول وترويج المخدرات..  إلأ أنها تحتقرهن، وتهاجمهن بأقسى الكلمات "أصواتهن تتحول إلى صوت واحد كثيف حارق الخ، والحاجز هو "مطلبنا الأول، قبل خروجنا الى الفناء حيث الهواء والشمس، قبل المرحاض، وقبل الخبز الملكي الخالي من الحشرات، قبل، قبل، سُدّ ذلك الجدار، بيننا وبين عنبر الأمهات والأطفال بالطوب والأسمنت".

أسلوب المؤلفة يقطر مرارة في وصف هذه الكائنات: "شعورهن الطويلة المنكوشة، جلابيبهن الممزقة، حاملات جرادل الماء على ررؤسهن، سائرات بخطوات ثقيلة بطيئة، كسرب من البقر المريض المساق إلى السلخانة" ص98، ولا تشعر بأي تأنيب ضمير عندما تكلف إحداهن يومياً، بتنظيف المرافق ومسحها، كأنهن عبدات لها ولثلتها، لا بل لم تفكّر قط لا هي ولا باقي السجينات في تنظيفها بالتناوب، لأنها تشعر أنها مخلوقة أرقى منهن. لكنها من دون أن تدري تكشف أن النسوة "الساقطات"، كن طيبات إلى أقصى حد. رأين في المؤلفة رمزاً أعلى، كن يقلدنها كل يوم عندما تستيقظ وتمارس الألعاب الرياضية، فيتجمعن أمامها، تراهن ويرينها من خلال الشقوق، ويفعلن كما تفعل بالضبط، وفي يوم تأخّرت فنادين عليها يفتقدنها إن كانت مريضة. وبانعزالهن عن العاديات ربحن الهدوء وخسرن إنسانيتهن، فلم يساعدنهن على تعلم القراءة، والكتابة، والنظافة، والعناية بالأطفال، وغرس مبادئ مستقبلية، خيرة، وتثقيف يعوضهن عما حرمهن المجتمع منه، لكنهن مع الأسف أخترن الكسل والثرثرة والتقاعس عن أي نشاط تقدمي، وانكفأن على أنفسهن.

عرض مقالات: