العديد من كتاب الرواية يعملون وبجهد استثنائي على ان يقول أحدهم ما يريد قوله عبر ما يستند عليه من اختلاف ،حيث يعمل على توفير ما يؤكد حدوث الفعل ضمن حالة افتراضية وذلك عبر اعتماده على ما يوثق عمله السردي فيلجأ الى الوثائق والتقارير ،والمدونات ذات المرجعية الواقعية في الوقت ذاته الذي يكتب من خلاله أفعالا سردية تنتمي الى اللاواقع من غير ان يعلن الكاتب عن ذلك .
المتابع ل-ما لم تمسسه النار لعبد الخالق الركابي، واليوسفيون لحسن كريم عاتي، وستة أيام لاختراع قرية لعلي عباس خفيف، وضياء جبيلي في لعنة ماركيوز،،والمدونة الرقمية لجنون مجيد والخان لصالح عبد المهدي —سيجد هذا المتابع ان الكاتب يحشد العديد من الأحداث ومن المتكلمين ومن الأصوات والرواة، من المؤلفات والتقارير والمعلومات والتي قد تتمتع بمرجعيات معترف بها.. معلومة المصدر أو تكون مفتقدة لهكذا مرجعيات، عندما تكون شفاهية، منقولة /مروية، كل هذا من اجل ان يتحدث عن فكرة أو حادثة أو شخصية أو ان يطلق تصورًا أو توقعا أو بنية ذهنية لمدينة أو لواقعة أو لكائن بشري،
الرسائل المتبادلة وحتى الفيسبوكية شكلت على أيدي العديد من الروائيين طريقة من طرائق الكتابة المختلفة .
لم تكن الرسائل المفقودة والتي تم العثور عليها ضمن مخلفات مكتبة، أو من خلال بقايا أوراق ممزقة أو محترقة أو منسية أو الكتب التي فقدها كتابها، أو تمثل كتابات أولية يتم تمريرها من قبل كاتب معاصر .
و ربما تشكل التقارير الصحفية أو الأمنية مادة أولية خصبة للحديث والكتابة عن تاريخ وحكومات وثورات وانقلابات، ان الكتابة عبر هكذا مواصفات تمثل اكثر من عمل ينتمي للحفر والتنقيب واستفزاز القاريء، ومن خلال هكذا تقنيات يتمكن المعني بالكتابة ان يمرر ما يريد أن يقوله بعيدا عن المباشرة والتقريرية،
البعض من الكتاب يعلن عن تلك الوسائل، ولا يتركها تحت رحمة القاريء أو المتابع،
وربما يتذكر ان هناك من استخدم مادة الرسائل كتقنية كتابية، ربما يكون ادمون صبري الأول من الكتاب الرواد عندما اصدر روايته "الرسائل المنسية " وربما يتذكر القاريء الروائية اللبنانية هدى بركات في "بريد الليل " الفائزة بجائزة البوكر العربي لعام ٢٠١٩ كأول أو أكثر من استخدم الرسائل كوسيلة تمكنت الروائية ان تقول الكثير من مادة. الكتابة السردية
وفي "حفرة السلمان" رواية صالح مطروح السعيدي والصادرة في طبعتها الأولى عام ٢٠١٩عن دار تموز /دمشق يستخدم وسيلة كتابة الرسائل من اجل كتابة النص السردي، وضمن تقنية الثنائيات(الفوق /رجل، التحت /أنثى، الفوق /داخل، التحت /خارج، لتتصاعد تلك الثنائيات لتشمل تقنية/الطباعة، فوق وتحت،، وتحت سلطة الثنائيات تتم تعرية الآخر /الحكام، حيث يكون التاريخ الفردي والجمعي، وما ينتج من مواقف واحتجاجات ومواجهات لتتشكل المادة الأساسية لكتابة الرسائل على مستوى كائنات الداخل /الوطن، وكائنات الخارج /المنافي .
ربما تشكل العتبة /العنونة، كإعلان توجيهي أو كما اقترحه القاص الراحل البصري محمود عبد الوهاب ثريا النص معلنا عن قدرة العنونة على ان تكون البوابة أو المدخل الذي من الممكن ان يسلكه القاريء وصولًا الى لب الرواية.
تشكل العنونة هنا -حفرة السلمان -اكثر من اشكالية، تقترب طورا، وتبتعد طورا اخر عن التناص مع العنونة الكبرى التي صاحبت المكان ما يقارب الثلاثة ارباع القرن اعني بها سجن نقرة السلمان —هذه التصورات لا يمكن الا ان تحدث لدى المتلقي، بعد ان حدثت مع السارد،
حيث يتوفر الموقف الاستباقي لاستقبال الكتابة، حيث ستقفز تصورات المكان الآخر الى المقدمة، حيث يهيءالقاريء خزينه الحياتي وتصوراته التي اكتسبها من خلال المعايشة طيلة العديد من العقود لتنهال المعلومة المنقولة والمعيشة عن المكان والإنسان، وعلاقة كل منهما بالسلطة آنذاك، وليفاجأ بأنه وتاريخه الشخصي والجمعي كان في واد، وما يريد ان يقوله الكاتب في واد اخر على الرغم من تداخل الكثير من الحوادث والوقائع والتاريخ والشخصيات، ما بين -حفرة السلمان وتصورات القاريء .
ان الأحكام الاستباقية /الانطباعية التي امتلكها أو وفرها القاريء لنفسه قبل ان يقرأ الرواية، سواء كانت على شكل استرجاعات مبكرة أو توقعات والتي ستسيطر حتما على مجريات القراءة، وافعال القاريء والاستقبال، والتذكر، وانعكاسات كل ذلك، سوف تحد من سلطة وتأثيرات الكتابة -بدل التوافق ما بين القراءة والكتابة سيتصاعد نوع من التصادم - وربما تتشكل حالة من الفتور ما بين البث والاستقبال .
"حفرة السلمان" نص سردي يعتمد كاتبه على الرسائل المتبادلة، والتي لم يعلن الكاتب، عن كيفية وصولها اليه، وكيفية حصوله عليها، من الذي دله عليها، هل كانت ورقية أم شفاهية أو هي فعل كتابي مفترض، كتبها صالح مطروح السعيدي على لسان شخصياته، أم هي رسائل لها واقع فعلي، رسائل متبادلة بين رجل وامراة.
آراء وافكار ومواقف، حيث يختلط العام بالخاص، وإنابة النحن، حيث يشكل الواقع المعيش واللاواقع المفترض، والثابت والمتخيل اكثر من دافع لكتابة هكذا تقنية كتابية تعتمد على وجود اكثر من تصور، وأكثر من موقف، بمواجهة حدث ما في لحظة ما .
هل كانت الرسائل تنتمي الى المخطوطات /الخطابات التي تشكل المستورات أساسًا لها، اذ كثيرًا ما تكون الأسرار والمخبوءات المادة الأولية للكتابة ؟أم انها مجرد اتصالات تعتمد الكشف والفضح، كشف الآنا، وفضح الآخر /الخصم /السلطة .
الكاتب لم يعلن عن هذا، فقد كان كل من -طيف ونبيه—طرفي التراسل يتراسلان كما لو كانت وسيلة التواصل الهاتف النقال، أو ان هناك تفويضا من قبل شخصيات النص للكاتب في ان يقول على ألسنتهم ما يهم جميع الأطراف، أو كما لو كان الخطاب مشمولًا بالحوار الداخلي، /المنلوج، وليس بمبدأ المراسلة -البريد والطابع البريدي وصندوق البريد،و شكرا لساعي البريد،-تلك الوسيلة التي كانت تمثل اكثر من مبدأ وتقنية للعديد من كتاب الرواية، في إقامة بنية النص السردي .
هل كان من الصعب ان يستحضر كاتب ما مجموعة أشخاص ويستنطقهم، مستحضرا طرقهم في الحياة والتخاطب، أم كان هو البديل كما يبدو في -حفرة السلمان -و بغض النظر عن تقنية الكتابة التي استخدمها السارد من خلال إشاراته حول القراءة أولا والقراءة ثانيًا، وصولًا الى اخر المطاف.
هل كان في نية الكاتب تفكيك مركزية الكتابة، والتقليل من شأن شروط كتابة النص السردي، ؟و الذهاب الى محاولة تصعيد الهوامش التقنية التي تمثل انموذجا كتابيا، حيث تحاول كتابة الرسائل ان تكون البدائل لمرتكزات الكتابة السردية، من تناقضات وصراعات، واحتدامات، مع وجود اشكالية ضرورة توفر المعضلة وصناعة الحلول، من خلال البداية والنهاية والحدث وتصاعده، ومن ثم خلخلة الحدث وتصاعد وبروز الطرف الأفضل وربما الأقوى أو الأفضل أو الأكثر قدرة على إقامة الطموحات التي تمثل تصور الكاتب للمستقبل،
في - حفرة السلمان - يغيب البطل الواحد /الشخصية الرئيسة، يغيب الحدث المركزي، غياب شبه كلي للصراع، غياب الآخر، الى جانب ما يطمح النص في الوصول الى التعتيم على الدور المنهجي /المدرسي /الأكاديمي في الكتابة وإحلال كتابات شبه منفلتة، والتي أشاعتها الحداثة في القراءة والكتابة والنقد، حيث انتشرت اللامركزية في الكتابة، حيث بمقدور الكاتب ان يحول النص السردي الى مجموعة بحوث ودراسات، ومجموعة تقارير، حتى باتت الكتابة على أيدي الكثيرين بوصفها مجموعة كتابات .
هل يمكن ان يستخلص القاريء من خلال متابعته للرسائل من ان صالح مطروح السعيدي في حفرة السلمان يحاول طرح مفهوم يذهب الى -موت الرواية الكلاسيكية -كما شاع من قبل مفهوم أو مصطلح -موت المؤلف - أو -موت الناقد -أو -موت الشاعر -
في -حفرة السلمان -ينساق الكاتب وراء اللغة التي تأخذ بيده الى حيث يفقد القدرة على صناعة الأفعال، والتي تشكل بدورها العمود الفقري للفعل السردي، والتي من الممكن ان تزيد تأثيراتها في تصعيد الأحداث والمواجهات، والإبقاء والالغاء في استقبالات المتلقي، ومن قبل هذا مع النص المكتوب، حيث تتحول الكتابة الى -عرضحال -
هنا تتصاعد لغة الشعر لتطغى على لغة السرد.
وأي لغة شعر يعتمدها الكاتب، ؟انه المفصل الذي ينتمي الى الصفاء والوضوح، ليجد القاريء ان النص السردي ل-حفرة السلمان -قد تم حرمانه من الحقول المجاورة، (المسرح /السينما/النص التاريخي /الوثيقة /الميثولوجيا /المدونات الأخرى )ان توفر النيات الحسنة والمخلصة لا يمكن ان تلغي شروط الكتابة على الرغم من هيمنتها.
و في الكتابة تقع تحت سلطة الجمع، -العمل بالنيات -أو-لكل امريء ما نوى- لا يمكن ان يوفر نضوجًا للفعل الكتابي الذي يحاول الكاتب الوصول اليه.
ويظل مفهوم الشكل والمضمون يمثل قانونا قد يضعف حتى يتوفاه السارد، أو يشتد عوده حتى يتحول النص الى -سرير بركتس- الى قانون النمطية الذي لا يمكن تجاوزه الا عبر الإضافة البديلة القادرة على انتاج المقابل الفني.
فحين الذهاب الى الدواخل /المخبوءات، الكتابة الكاشفة للعتمة من الحياة اعني المواقف الفكرية، نجد ان الكاتب يتخذ من اللغة وليس من الحدث وسيلة أساسية للتعبير، حيث يكون الذهاب الى الأفعال /الصراعات والتناقضات المجتمعية، لابد للكاتب من الذهاب الى الشخصانية /التاريخ الشخصي للأنا أفعالا وسلوكيات، حيث يتصاعد الإقصاء عبر حلحلة الإشكاليات المتعلقة بالأفراد، والإشكالات المجتمعية التي تديرها سلطة الحكومات، حيث تتصاعد الثورات، حيث تخفت حدة جماليات اللغة، فاسحة المجال الكتابي للمواجهات التي لا بد ان تتنحى الشخصية شبه الرئيسية عن دورها، أو بعض ما تقوم به الى سواها، من الشخصيات الأخرى.
ولان صالح مطروح السعيدي في -حفرة السلمان -ما كان عدائيًا، وما كان يتحين الفرص للإيقاع بخصومه عبر الخديعة والمكر وتدمير الآخر، حيث سيجده القاريء متخذا من اللغة المهذبة وسيلة للتعبير عن الكثير من المتداول من الأفكار والمواقف .
لقد كانت كائنات -حفرة السلمان -كائنات شعرية اكثر مما تكون كائنات سردية قادرة على صناعة التناقضات والصراعات، لذلك تصاعدت شعرية اللغة .
العبارة هي اكثر مواصفات لسان العرب بروزًا، تمتلك من السلطات ما يمكن ان تحول السارد القلق، المستفز،الى شاعر طيب، هاديء، لتتحول لغة الحراك الى لغة العتاب والمناجات،
وإذا ما استطاعت اللغة وشعريتها من ان تحد من حضور الفعل السردي، فقد استطاع صالح مطروح السعيدي ان يفلت في أحايين كثيرة من سلطة الرسائل المتبادلة التي سلبت اشتغالات الكاتب عبر حقول السرد والقص، حيث يتصاعد الوصف والاستذكار والاسترجاعات،
لقد كان -السعيدي-قاصًا واضح الوجود والحضور ككاتب قصة قصيرة، في الفصل السابع من القسم الأول /عام المرارة، وفي الفصل الثامن من القسم الثامن /حفرة السلمان .
يبدو ان -صالح مطروح السعيدي -وفي الكثير مما يكتب كان اسير لغة حميمية تنتمي للعشاق والمحبين والعتاب وبث الشجون.
هل فشل الكاتب في صناعة رواية العقدة والحل، والصراع والإزاحة ونجح في كتابة نصوص لغوية تعتمد الوصف والشعرية والجملة الاسمية والبوح الذي جاء على شكل رسائل،وان لم يقترحها او يدبجها هو، فقد كانت من صنع شخصيات النص، /السرد،
لقد تمكن -صالح مطروح السعيدي -من شحن شخصيات الكتابة بخزينه اللغوي وتزويدهم بكيفية التحدث عن النفس وعن -الآنا والآخر -
وبات من الضروري ان يكون هناك تطابق بالآراء والأفكار والمواقف داخل النص السردي، ما بين القاريء/المتلقي، والفعل السردي /الكاتب .
الكاتب يحاول ان ينجز ما يمثل جزءا من تصوراته التي يجب ان تكون مختلفة،
لذلك تعددت منصات الكتابة وتعددت المناهج، ليطلق الىمؤلف بعض توجيهاته عبر الإشارات المتعددة(الإهداء /تنويه /دليل قراءة الرواية /العنوانات الداخلية /وأخيرًا -تنويه اخير،وقبل هذازمن كتابة الرواية) وباتت المعرفة تشكل وجوبا للكثير من ثقافة القارئ، وهي التي منحته حق العمل، وحق الرضا. او حق الرفض عما يقرا، ويستقبل.

عرض مقالات: