المقدمـــة:

وأنتَ تقرأ قصيدةً أو نصّاً، وسط هذا الكمّ الهائل من النتاج الشعري المتعدّد الألوان والمشارب، فقد مسّ الشغاف منذ القراءة الأولى، وجعلَ النّصُ الحيرةَ راكزةً في ثنايا تفكيرك، وخلطَ بين ظنونك وإشاراتكَ المعرفيةِ، فعرّجتَ في قراءتكَ الثانية لتضعَ خارطةً للنّص، بل وتبحثُ عن مصادرهِ ونبعهِ. هكذا وجدتني أسلّطُ الضوءَ على المفردات والألفاظ والصور ليكون أشراق النّص شكلاً ومضموناً محتكماً لآليات التفكيك وماضيا في أفق الإسلوبية.
وأنتَ حينما تصمّم الغور في أعماق النّص، عليكَ أن تلتزمَ الهدوء والصبر في جلي وسبر غور مجاهيله، وعليكَ ألا تعبثَ بألوانهِ وزخارفهِ، ولا تثلم تماثيلهُ ونصبه التي تمتدّ رموزاً وآلهةً لعالمهِ..فإن كنتَ لا تملك أدوات توائم النّص الذي يعنيك فعليك أن تبتعدَ عن تدنيسه أو تمزيقه، أو تشويه جماليته. والنّص الذي بين يدينا قصيدة من الشعر الشعبي للشاعرة العراقية وفاء عبد الرزاق بعنوان (هنيال الكصب)، والشاعرة حصدت العديد من الجوائز الأدبية وتُرجمتْ معظم نتاجاتها الشعرية والروائية الى لغات أجنبية، ولها في الشعر الشعبي مدار بحثنا أكثر من ثمانية دواوين. فلنبدأ قراءة النّص.

-عنوان القصيدة:

يقولُ الناقدُ الفرنسي( رولان بارت): ((العنوان ثريا النّص))، وهكذا نبدأ مع العنوان: ((هنيال الكصب)): والقصبُ نبات أزلي يرتبطُ ارتباطاً وثيقاً في الموروث الرافديني القديم، فهو يشكّلُ ثُنائيةَ الحياة بل أكسير الحياة مع الماء، وهو رمز الحياة وبداية الخليقة، بل وأنتَ تبحثُ في تاريخ تلك العُشبة( القصب) نجدُ لها مدلولاتٍ تاريخيةً عميقةً وخطيرةً ارتبطتْ بالذات العراقية القديمة، وأقصدُ بالذات : الهُويّة، الأرض والانسان،وكل ما ينتجهُ العقل البشري في الرقعة الجغرافية التي تمتدُ ما بين النهرين. فحينما نقرأ التاريخَ القديمَ نجدُ كلمة (سومر ) وهي تعني في اللغة السومرية: (أرض سيّد القصب)، فالقصبُ موجود حينما كانت (أور) وربما قبل ذلك، حتى أنّ مؤسس السلالة الثالثة في أور الملك (أورنمو) وتعني: (ملك القصب). والسومريون يعرفهم التاريخ أنهم أصحابُ أولى الحضارات في تاريخ الإنسانية.
ونجدُ (القصبَ) هذا النبات الطاهر المقدّس كيف خصّتْهُ الأقدارُ بالهيبة والكرامةِ، فقد اتّكأتْ عليه أعظم أساطير وملاحم سومر وبابل( اسطورة الخلق، وقصة الطوفان..)، بل ستقرأ أوديسة العراق الخالدة ((ملحمة كلكامش)) لتجدَ القصبَ المقدّس موجوداً في صفحاتها، وستقرأ ما قالهُ إله المياه العذبة والخصوبة حينما أرادَ أن يحذّرَ ((أتونابشتم)) من الطوفان، فاختارَ أن يخاطبَ بيت القصب:
((
بيتَ القصب.. يا بيتَ القصب
جدار.. يا جدار..
إصغِ أنتَ يا بيتَ القصب..))
والقصب مصدر أساس في حياة الإنسان العراقي، فهو يدخلُ في مفاصل حياة الفرد، فهو مصدر مهم لبناء بيوت الناس والسفن ، ومنه الوقود، ومنه طعام حيواناتهم..بل وتفنّن الناسُ بالقصب في صناعاتهم كـ( الحصران، البارية، الصريفة، السوباط،..) وامتدتْ لصناعة الآلات الموسيقية (المزمار، المطبك، الناي..).
هذا هو القصب السومري العراقي المقدّس الذي ظلّ يُشكّلُ ثنائيةً عظيمةً مع الماء، فحيثما وُجدَ الماء تناسلَ فيه القصب السومري ليشكّلَ لوحةً رائعةً على جسد الأهوار. ويمتلكُ هذا النوعُ من النباتات (القصب) صفةً تميّزهُ عن النباتات الأخرى فهو عنيد ويرفضُ الفناء ويقاومُ الجفاف وحتى لو جُفّفت الأهوارُ وغارت أمواه دجلة والفرات يظلّ متطاولاً بقامتهِ تتمسّكُ جذوره بالأرض العراقية مهما قسى الزّمان وقست الظروف. وهذه إضاءةٌ بسيطةٌ لمفردةٍ في عنوان النّص، فهي إذ تُشكّلُ وتُدلّلُ على:
1-
هوية العراق التاريخية، القصب المقدّس، الذي ارتبطَ بالأرض والماء.
2-
التسميات السومرية والبابلية القديمة التي تأثرت بالقصب وكونه أثرا مقدساً.
3-
وجود القصب في الملاحم والأساطير السومرية والبابلية.
وما تشيرُ إليهِ الشاعرة منذ اللفظة الأولى الى ما تعنيه ، من كون القصب يتصف بالعناد والصلابة رغم قساوة الظروف والجفاف فإن جذوره تضرب في بطن الأرض ملتصقا بالرحم لايغادره البتة، وهذا ما تعنيه الشاعرة في ارتباطها بالوطن مهما تغربت وبعُدت المسافات.

-الثنائيات :

تعتمدُ فكرةُ الثنائيات- في النقد الغربي- على أوجه التضاد والتوازي، فهناك الثنائيات اللاهوتية: الخير/الشّر، الحق /الباطل، وهناك ثنائيات ضدّية: النور/الظلام،الأسود/ الأبيض، السالب/ الموجب. وثنائيات اجتماعية: الظالم/ المظلوم. ويشكلُ مفهوم الثنائيات الضدية عصب المدرسة البنائية في النقد والتحليل البنيوي. وقد وجدَ التفكيكيون أنّ فهم الحياة على اساس الثنائيات الضدية يؤدي الى حصرها في نمط ثابت، وليس في الحياة ثبات. أمّا ثنائية الدّال والمدلول فقد وصلَ التفكيكيون في الفصل بينهما الى أبعد نقطة ممكنة.
أما في الثقافة العربية فيُعدّ الجاحظُ من أوائل الذين التفتوا الى قانون الثنائية الضدّية على أنهُ قانون الحياة الجوهري فالعالم على ثلاثة أقسام: المتفق، المختلف، المتضاد. ويُعدّ كتابهُ المحاسن والأضداد مثالاً على فكرته وفلسفته. وفي النقد العربي القديم يلتقي القديم يلتقي مصطلح الثنائيات الضدية في بعض جوانبه مصطلح الطباق والتضاد والتكافؤ.
-
ثنائيات النّص: في القصيدة سنحصر هنا الثنائيات بأنواعها التضاد والمتفق:
1-
الثنائيات الحرفية: نقرأ في النص: (العين والراء)- (الألف- القاف).
2-
ثنائيات الإتجاه: يسار- يمين.
3-
ثنائيات المتفقة: وهج- فانوس/ .. عشب- خضرة../ دمعة- عين.. الشط- ضفتين.
-
التثنية: مع الثنائيات امتزجت صيغة المثنى في متن وقافية النّص، لعل هذه الثنائيات جعلت من النّص أن يتلاقح وألاّ تطغى أو تظهر لغة الأنا بل أخذت تثنية الأسماء والصفات والمعاني مأخذها ودورها الناشط في النّص. فظهرت : ((قفلين-مثنى قفل-، شطين-مثنى شط-، نصّين- مثنى نص-،مرتين-مثنى مرّة-، خدّين-مثنى خدّ-، شمسين- مثنى شمس-، ضفتين- مثنى ضفة-، ألفين- مثنى ألف-، ظلّين- مثنى ظل-، مُرّين مثنى مرّ-، .

- قيامـــة النّص:

تبدأ الشاعرةُ( وفاء عبد الرزاق)، وكأنها تكتبُ رسالةً الى وطن.. هذا الوطن الذي حدّدتْهُ بعد أن بيّنت حالة التمزّق الذي يعيشه أو الحال الذي أرادت قوى الشّر رسمها في تمزيقه وتقسيمه، فجاء الإسم ممزّقا ممفرّقا، وعبّرتْ عن ذلك بقولها: (عضّاني الإسم والعين والراء) ثم في الشطر الثاني الممزق( ولكيت الألف والقاف سجّين). وهكذا كان الإسم سكينا يطعن الأحبة حبا كلّما هيّجت الذكرى الحنين وكلما سمعت في غربتها أخبار الدمار والحروب، وكلما وجدتْ أنهاره أصابها الجفاف بعد خير عميم، وبعد أن كان هذا الوطن كريما يوزّع للعالم عطاياه علماً وهدايا، إلا أن يد الأقدار عبثت به وجعلتْ من أنهاره تشكو العطش، وكثُرتْ الأقفال التي أغلقت كل المحطات ، الأقفال التي تعني الممنوع، وكبت الحريات والتكميم (تعنيت وعلى العتبات قفلين)..
تقرأ القصيدةَ من بدايتها وفي ثناياها وخاتمتها يتنقل وينتصبُ القصبُ سيّدا مقدساً، حيث تقول: (مثل نبتة ويطرهه الكيظ نصين). ثم تجعلُ الوطنُ جسداً (يل جسمك نبي وايديك قرآن) فالوطن جسدٌ إذا سُرقَ تهدّم الدين والقيم، وأن سنين الجوع والجفاف هي ظروف القهر وما يصيب الناس من آلام وحرمان (ترضه يجوع طيني وانته صلصال) والحيطان تصيبُها الشروخ. ثم تقفُ معاتبةً عتاب الحبيب لحبيبه (ولك ليش الصفع خدّك تعز بيه)،فتستأنف نشيد حبها لتفتح باباً لحوار جديد يبنى على نداء الحرية والسلام (أريد أدخل قميصك باب شمسين) فهي تريد الرجوع بكل محبة وعشق، تريد أن تضم قميصه بأحضانها. فهي وأن أنبت البُعد والغربة مخالبهما في جسدها وذاكرتها إلا أنها ظلت تعيش وتسكن في الشط وتنبتُ قصباً في الأهوار وتحملُ الفانوس على الضفة تدعو كل غريب في غربته واغترابه للعودة الى الماء والطين والقصب، تحملُ ضفائرها مصابيحا.
ثمّ ترسمُ الوطنَ صورة طفل تناغيه وتهدهدهُ بأغاني الطفولة وألعابها (بكطرات الندى تلكه اسمي والناي../ والسدرة ولعبنه الجان ظلين)، ثم تعبّر عن صورة تبادل الهدايا بينها وبين الوطن ( تهديني النبك وأهديك الألعاب)..
وفي الختام : وبعد المناغاة والتدليل لطفلها تقول سؤالها الذي يفجّر القصيدة لتكون الخاتمة كسر للتوقع وتسير مسارا يرتقي نحو فكرٍ يسمو في فوق سماوات العنوان، فتقول: (يا طفلي الصغير مدلّل كماط) ..و ( أجيبلك قيامة شلون ومنين)..؟؟ سؤال يفجّر طفولة التدليل وقماط المحنة سؤال الحيرة والبحث: شلون ومنين؟؟؟ هو البحث عن السبيل للخروج من المأزق بعنوان يليق بتاريخه وقامته. ثم لا يطول الإنتظار لتجدَ الجواب حاضراً : (بيك انته القيامة وسطوة النار) فهي تضع جوابها أن القيامة المنشودة موجودة وحاضرة بك يا طفلي ، موجودة في جسدك في يديك في عقلك في فكرك في تاريخك، بل هي موجودة في القصب الذي بات عصيا على الزمن وعلى كل الحقب فمهما جففوا الأهوار ومهما شحّ الرافدان، ستظل القيامة قائمةً وسيكون التغيير والتحرر وستُفتحُ ابواب الحرية وستنكسر كل الأقفال.
ومثلما بدأت الشاعرةُ عنوان القصيدة بـ( القصب) تختتم القصيدةَ بالقصب أيضا لأنهُ المقدّس فتقول: (وهنيال الكصب من يحرك البين) فهو رمز سومر، رمز العراق القديم-الجديد يظلُ هاماً مرفوعاً يمدّ جذوره عبر التاريخ...
قصيدةٌ تغورُ في النّفس والعقل، بناؤها حديث استخدمت في بناء القصيدة وتأسيسها ورسم مفاتيحها الحداثة ببنيويتها وتفكيكها، ومن طباق وجناس، شكّلتْ اسلوبا يميّزها يرتقي بالمتلقي نحو آفاق التأويل والقراءات المتعددة التي تصبُ في بهجة المعنى والتجدّد مع القصب.