الايطاليون لديهم مثل يقول " الحياة مثل الضوء، إنها إشعاع وعطاء"، الا انهم الآن يدركون بانها هشّة إلى حدّ أنّ أصغر فيروس يستطيع أن يُفقدهم إيّاها، يستعملون كل مطارق الكلام من اجل ارغام الاخرين على المشاركة في كل صغيرة وكبيرة، وحين تكون هناك مهرجانات لهذا الكلام، تنعدم المسافات وتموت تحت ثياب البهجة التي يصنعونها بشكل جيد. والكلام عن حرب الأوبئة ، يوقظ الغرائز الاكثر بدائية عند البشر، وهذا ما يجعل هذا الحَجر المُطلق مؤلما جدا، وصعبا جدا، ويكاد يكون بغيضا جدا، ما يجعل الترفيه أمرا لا غنى عنه، الترفيه الذي يساهم بتعديل وقت الانسان، من وقت الموت والجنائز، الى وقت الامل.

 ففي الوقت الذي ينتشر هذا الوباء بسرعة فائقة ويحول مدنا باسرها مثل ميلانو التي تعتبر مدينة الصناعة والثقافة الايطالية الى مدينة اشباح ومعها عشرات المدن الشمالية، فان ايطاليا المنكوبة تفرج عن نفسها بعناد لتتعامل مع جنون العالم ومعالجته بالفرح ، حيث يكشف فيروس الكورونا هشاشة الإنسان، فقدانه لتوازنه أمام الرعب من خوض النهاية بوعي وإدراك كاملين، وكيف يعيش العزلة التي يسببها الحجر الصحي، وهو في لحظات إحساسه باليأس والعزلة، والهشاشة والخوف

تحشد ايطاليا التي قلدتها في تجربتها، كل من فرنسا وبلجيكا والمانيا، بتسخير كل مؤسساتها الثقافية العملاقة ، وتطويعها ، لتحقيق الأهداف الكبرى المتمثلة بضرورة تواصل مسيرة الحياة  من خلال تسخير الارث الثقافي والفني، السمعي والبصري، لمعظم الناس المحجورين في منازلهم ، ليكونوا على تواصل مجاني مع أهم النتاجات والعروض الراقصة والموسيقية والغنائية.   

  ولأنّ ايطاليا تعيش الآن لحظة رُعب مُرّ، بسبب تفشيّ وباء كورونا ما بين القلق والهلع والأمل، فقد ابتدعت طقوس "الحجر الإبداعي" مقابل "الحجر الصحي" الذي يفرضه فيروس كورونا على الكوكب بأسره ويشلّ دول بأكملها من المطارات إلى المتاجر والمدارس والجامعات وصولا إلى دور العبادة والملاعب والنوادي والملاهي والمسارح ودور العروض الثقافية الفنية ودور السينما، رغم بشاعة الظروف، من اجل إستعادة التواصل والتضامن. وهو واحد من الأساليب التي يقاوم عبرها البشر الذعر، بإطلاق روح السخرية، واعادة تفكيك حالة الخواء والضعف البشريين في مواجهة عدو متغطرس وشرير.

ابواب متاحف الفن لها طعم آخر ونكهة خاصة، وهي شغل الناس الشاغل، ابتعادا من دهاليز السياسة وفضائحها الموجعة، والحال مع غالريات الفن ايضا، التي اغلقت ابوابها على ضوء اجراء السلطات بحظر التجول في جميع انحاء البلاد .  والبديل الذي سارعت اليه هذه المراكز الفنية التي تنتشر في جميع المدن الكبيرة والصغيرة مثل حبات الفطر، هو الالتزام ببرامجها من خلال فتح مواقعها الالكترونية والقيام بعروضها بدون جمهور، لتجعل كل شيء في حياة الفن متواصلا بإعطاء مسرة الرؤية الجميلة، وديمومة التذوق الجمالي عند الناس. ومن خلال هذه المنصات الالكترونية الرسمية والاهلية، التي يسهل الدخول اليها بالمجان، يحتّم على الناس الابتعاد والانزواء والاختلاء واعتزال الآخرين، الى عالم يضج بالحيوية والاندهاش ولا يخلو من متعة حقيقية، يشعر الناس في كل مكان اعتماد بعضهم على بعض، امام حياة هشة.

الايطاليون يعتقدون بأن بلدهم ببره وبحاره، وارثه الفني العظيم الذي يحتل نسبة  تزيد على الـ40 في المئة من ارث العالم، لكل البشر، ليست لشعب دون آخر، وأن لكل إنسان نصيبا من هذا الكوكب الأزرق، ولا حق لأحد بأن يرفع جدرانا خصوصا في وجوه الخائفين أو الجائعين أو المرضى او المهاجرين.. وهذا الشعب العريق يجمع على انه لا شك في أن البشرية سوف تجد لقاحا للفيروس المرعب كورونا، وسوف تنتصر عليه، ولكن بعد سقوط ضحايا كثيرين وتكاليف اقتصادية هائلة، جنبا الى جنب. لايريد اي منهم ان يرتفع سدّ الخوف والحذر الذي يحاول حبس خفَّة دمهم وظرافتهم الساخرة ،مع انهم يدركون بان المأساة  تقترب وتكبر كل يوم، والسخرية تنكمش أكثر فأكثر مع اخبار الموت.
بعد الأحداث العظيمة يتغير شيء ما في تفكير البشر، هذا ما تفعله الحروب عادة مثل الحرب العالمية الثانية، وما أسفرت عنه من انفراجات . الروائية الايطالية" داتشا مراييني" والعديد من المثقفين الايطاليين، يعيّ "بان تقدير عامة الناس ينطوي في جانب منه على مُغالطة في قراءة التاريخَ، وصورة ذلك أننا قد نسينا حقيقةَ أنّه يمكن أن تظهر أوبئة تكون عنيفة ومعدية تجعل كل فرد يُراعي وحدته بصفتها سلاحه الأمين في الدفاع عن نفسه ضد مواطنيه، الذين يحتمل أن الوباء قد أصابهم أو قد يُصيبهم، وأنهم مؤهلون ليسكنهم، على الرغم من أن لا أعراض ظهرت عليهم، مع ذلك فقد صرنا لا نثق في بعضنا، ونشك في كل سليم معافى أنه سوف يُصاب بالفيروس ولو بعد حين". وتضيف الروائية الايطالية الكبيرة التي اتصلنا بها تلفونيا" بعد هذه التجربة القاسية مع كوفيد التاسع عشر، سوف تعود البشرية بعد دفن موتاها إلى ما كانت عليه، صاخبة في أمكنة اللهو، والمطارات والمواصلات، ودور العرض وأمسيات الشعر والأفراح والمهرجانات، تشبه خلية نحل تتعرض لخطر خارجي، فتعلن حالة الطوارئ وتختفي عن الأعين، إلى أن يزول الخطر ليعود طنينها كما كان، ولكن هل تكون هذه التجربة  الاليمة عبرة في المستقبل، للدول العظمى كما للصغرى، وللغنية كما للفقيرة، وللأفراد والمجموعات كما للدول، ولجميع الأعراق والديانات، وللإنسان عموما في كل مكان هذا الإنسان المتحضّر والمتفوّق جدا، الذي يضطر اليوم إلى أن يعزل نفسه رغم أنفه ليحميها من فيروس، ينتشر بفعل العولمة".

 الاف المتاحف والاف الغالريات والمئات من دور السينما والمسارح ودور الاوبرا خالية الآن، الا ان العديد منها لم توقف مواعيد برامجها المثبتة بسبب عدم وجود الجمهور، بل اصرت على ضرورة الذهاب الى الجمهور، من اجل ابراز اللحظات الاستثنائية لجماليات الحياة، متبعة نظام التواصل الالكتروني ( اونلاين) ، باعتباره نافذة مؤقتة يستكين المتلقي لعذوبة نسيمها. نحو 47 فعالية عروض فنية  ضمن برنامج بلدية في مدينة روما وحدها لهذا العام، سيظل برامج افتتاحها محتفظا بمواعيده، من خلال منصة خاصة ببلدية العاصمة، جنبا الى جنب، عشرات المسرحيات ستبث اونلاين للجمهور مجانا،، معارض في مدينة ميلانو بؤرة الفيروس ، مثل معرض "مي ارت" ومعرض " توت عخ آمون" ستفتح ابوابها على شاشات البيوت، اكبر معرض فني في تاريخ العاصمة روما بمناسبة احتفاليات ذكرى الخمسمئة سنة على وفاته تحولت من خلال منصة وزارة الكنوز الثقافية  الى اونلاين، افتتاح ترميم جدراريات كنيسة "سانتا ماريا ديلا فالي" في مدينة ماتيرا، وكاتدرئية "كوّلاماجو" في مدينة الاكولا. عشرات الفعاليات الموسيقية داخل الكنائس والقاعات المخصصة في عدة مدن ايطالية، التزمت بتقديم فعالياتها في مواعيدها ونقل فعالياتها مباشرة لجمهورها الايطالي والاوربي، جنبا الى جنب عروض الازياء ، القيام بنصب عشرات الشاشات السينمائية في الاحياء الفقيرة والساحات لعرض افلام سينمائية ايطالية من افلام الواقعية الايطالية الجديدة. قراءات شعرية  من منازل الشعراء، ولقاءات مع كتاب ومثقفين من منازلهم مباشرة،  ويقدم ايضا برامج تعليمية للأطفال بالإضافة الي عرض مجموعة من المؤتمرات التي عقدت عامي 2017 و 2018  لمساعدة المشاهدين على ملازمة منازلهم والتمتُّع بوقتهم دعماً لحملة وزارة الكنوز الثقافية الايطالية، للمساهمة بتسلية المتابعين خلال فترة الحجر المنزلي المفروض لمحاربة الوباء، في تأكيد جديد على قوة العقل البشري، والرغبة القوية في الحياة والتواصل الإنساني والحضاري، على الضد من المشككين من بعض الاحزاب السياسية الذين تصعد أصواتهم في أوقات المحن، ولهذا تجب مكافحتها باستمرار حتى لا تكسب مزيداً من المتعاطفين والأنصار بعد أن تهدأ العاصفة.

 

عرض مقالات: