تناقلت وسائل الاعلام المختلفة أخيرا، خبراً يتعلق بإلغاء وزارة الثقافة والسياحة والاثار في العراق.
وقد أثار هذا الخبر استياء عدد من المثقفين، فيما مثل لقسم آخر منهم الغبطة والانشراح.. ولكل طرف اسبابه وموقفه.
وفي مراجعة لواقع هذه الوزارة منذ 2003 وحتى الان؛ نجد ان هناك الكثير من الاخفاقات في عمل وزارة الثقافة.
ففي فاتحة عملها، نجد ان وزيرها الاول الاستاذ مفيد الجزائري، تمكن في ظروف قاهرة ومستعصية ومتشابكة من اعادة تأسيس وزارة للثقافة بعثت من رماد الحرب والدمار والخراب، وتمكن في فترة زمنية قصيرة من إعادة هيكلية الوزارة ومؤسساتها، وحققت دار الشؤون الثقافية ـ المديرية الاهم في الوازرة ـ حضوراً بارزاً في اصدار المطبوعات وتنمية عملها بوصفها دائرة تعتمد التمويل الذاتي.. كذلك كان المؤتمر التأسيسي للمثقفين انموذجاً لعمل مجد ومجتهد لمستقبل الوزارة التي استعادت عافيتها وبدأت بتشغيل دوائرها..
إلا ان الفترة التي اعقبت هذا التطور والنمو السريع؛ حولت تلك الخطوات الناجحة والمثمرة الى وزارة لا يتمتع وزراؤها بأفق ثقافي ولا استراتيجية لثقافة وطنية منشودة. وهو الامر الذي جعلها وزارة فاشلة ولا تتمتع بحضور ثقافي لا بين جمهرة المثقفين ولا بين ابناء البلد الذي يفترض ان تسهم في نشر الوعي والمعرفة بينهم.
وهذا هو السبب الذي جعل خبر الغاء هذه الوزارة مقبولاً إلى حد ما. لكنه في الحدود المنطقية والمعقولة والضرورية كذلك، يعني ان الالغاء، يمثل الاستغناء عن الخطاب الثقافي اصلاً. في وقت نعد هذا الخطاب لا يقل اهمية عن خطاب وزارة الدفاع بوصفها وزارة تعد الشبيبة للدفاع عن الوطن. ومثل هذا الدفاع لا يتحقق إلا من خلال وعي الجندي وثقافته في معرفة عدوه، ومعرفة استخدام سلاحه، الى جانب معرفة جغرافية وطنه... ومن دون هذه المعرفة لا نحصد سوى الخيبة والفشل.
نعم. وزارة الثقافة، منبر توعية، وزاد ذهني لا يمكن التغافل عنه. ونعم. الثقافة شأن ذاتي يمكن للمرء ان يكسبه بنفسه، على العكس من بعض الدول التي استغنت عن وزارة الثقافة، ذلك ان المجتمع يعمل على تثقيف افراده ذاتياً، وهناك شخصيات وجمعيات تتولى مهمة دعم النشاطات الثقافية. إلا ان هذه الحالات لا تنسجم مع مجتمع كالعراق يعاني أزمات حادة في مقدمتها الوعي وهيمنة الجهل والامية. ووزارة الثقافة هي من يتولى وضع برامج معرفية وجمالية وفكرية وابداعية. ولا سياسة من غير ثقافة، ذلك ان الثقافة السياسية هي ذاتها علم موجه ومسؤول ترسخه السياسة الثقافية التي ترسمها الوزارة.
صحيح ان هناك جوانب اخفاق في جميع دوائر هذه الوزارة، بسبب غياب القيادة الثقافية الخبيرة التي ترى ان وزير الثقافة منصب سياسي ولا ضرورة لمثقف راسخ ومجرب ومعروف يتولى ادارتها.
وهذا خطأ فادح. وأمامنا مثال معاكس يتجسد في عقلية ديغول حين اختار لوزارة الثقافة روائي فذ ومثقف مهم ومقاتل وطني مثل: اندريه مولرو.
وبات يعرف ان فيروز تمثل لبنان، وام كلثوم ونجيب محفوظ هما قبلة مصر، والعراق يعرف بالجواهري ومظفر النواب. فكيف نغيّب الثقافة وادارتها في بلد كالعراق تفشت فيه الامية والجهل وأخذا يغزوان المجتمع على نطاق واسع، وبات التقاطع قائماً بين وزارات مماثلة كالتربية والتعليم العالي والعلوم والتكنولوجيا. مع ان الاخفاقات السابقة والمتكررة سنة بعد أخرى، لا تتطلب الغاء الوزارة؛ بل معالجة اسباب هذه الاخفاقات ودراستها دراسة موضوعية متأنية وصولاً الى حلول ايجابية منشودة، واذا كان يراد لوزارة الثقافة والسياحة والاثار ان تتحول الى وزارة منتجة، فان هذا ليس امراً تعجيزياً او مستحيلاً، بل هو ممكن جداً.
مفاتيح السياحة امر وارد، والاثار يمكن ان تشكل رافداً آخر. أما مطابع الوزارة ومسارحها ومعارضها التشكيلية ودور السينما الغائبة فكلها يمكن تنشيطها وبعث الحياة فيها.
وهناك مبانٍ ودور ثقافية في المحافظات، يمكن تحويلها الى نوادٍ ثقافية تحقق ارباحاً يمكن ان تموّل المنجز الثقافي.
الثقافة. ليست عالة على الدولة التي تعاني ازمات اقتصادية ومالية، وليست عبءاً تحتاج الى التمويل الدائم.
الثقافة في مفهومها (انتاج المعرفة) وكل انتاج يتطلب الرعاية والدعم ليتحول فيما بعد الى قيمة ربحية تتعلق بوعي المواطن وهذه هي الربحية الاولى التي نريدها من وزارة تعنى بالثقافة والمثقفين بمعنى انها ترعى المثقفين لكي يقدموا عطاء معرفياً للناس. وعلى وفق هذا التوجه يمكن للدولة ان ترعى الثقافة من جانبها مثلما تشتغل وزارة الثقافة كذلك.
على ان كسب الثقافة ليس مجانياً وإنما يتطلب مساهمة المواطن نفسه في دعم وتعزيز هذا الغذاء العقلي الذي لا يقل اهمية عن الغذاء الذي يسد الجوع الى الطعام، ذلك ان الجوع العقلي وحاجته الى المعرفة. هو الذي يهدي ويوجه الناس الى غذاء صحي سليم.

عرض مقالات: