سرقه المرض على عجالة، وكأنه ينافس ابن مدينته السياب بمرضه ليرحل عنا وهو في ريعان الشباب ويترك لنا منجزه الذي سكن قلوب جميع من عشقوا الشعر العامي العراقي الذي وصفه الشاعر العربي الكبير أدونيس في حوار اجريته معه، انه من اصعب انواع الشعر الشعبي العربي، عبدالحسين الحلفي صنع لنفسه بنفسه لونا خاصا تميز به عن الكثيرين من شعراء جيله وحتى من سبقوه في الابحار بهذا المحيط المخيف والممتع، ولم تأت شهادة الناقد العراقي الكبير الدكتور مالك المطلبي جزافا حين صرخ بأعلى صوته وهو يستمع الى تراتيل الحلفي في احدى قاعات البصرة "انه متنبي الشعر الشعبي" والكلام غير منقول وانما كنت في القاعة نفسها مع العديد من شعراء العراق وسمعته ورأيته وهو يقول ذلك، والمطلبي كما هو معروف عند الجميع لايعطي رأيه مجاملة حتى لأقرب الناس، لكنه سمع ما سمع تلك الليلة من ذلك البلبل البصري الذي انشد مهرجانا شعريا شعبيا وسط مهرجان الشعر الفصيح.

حامل رسالة الفقراء

الحلفي الذي نال شهادة البكالريوس من كلية العلوم /قسم الفيزياء... جامعة البصرة عام 1987، لم يترك بابا من ابواب الشعر الشعبي إلا طرقه وابدع فيه ،فذاع صيته في البصرة منجم الشعر والشعراء والتي لايروق لها الا الشاعر الشاعر، لتتناقل قصائده وتنتشر في جميع مدن العراق،لجرأة الطرح، وجزالة اللفظ وروعة المضمون والاسلوب التلقائي من بداية القصيدة حتى نهايتها، ويجعل المتلقي وكأنه في كل بيت يقول له مجبرا (هذا بيت القصيد)، بل احيانا تشعر بأن البيت الواحد عند الحلفي عبارة عن قصيدة متكاملة وتفي بالغرض، والمدهش عند الراحل الحلفي انه كتب في الغزل وعشق الوطن وذم الساسة المفسدين ،وحمل رسالة الفقراء كمدافع عنهم بصور رائعة ومروعة، وتصوير حالة العراقي بصدق من غير مواربة او تملق،وهو يترجم حالة الشعب بكل صدق حين يقول (الحكومه انطت شعبها ارقام ورقام.... حتة يخابر ويشرح إهمومه..... شعب خارج نطاق التغطية يعيش... إذن شيسوي برقام الحكومة)، وبصورة اخرى يصف صورة العيد في زمن الطاغية وصورة العيد مابعد التغيير (إبوطنة ألضحكة شردت من ألحلوك... والعيدية دوم إمزاعلة الأيد... يجينة إلعيد جان ومامش هدوم.... هسة هدوم عدنة ومايجي إلعيد)، فأي صورة أبلغ من هذا التصوير المسرحي الممزوج بالمرارة.

عتاب الشاعر مع الوطن

المعروف حين يشكو الشاعر من الصورة المأساوية التي مر بها المجتمع الذي يعيش وسطه، يسلط هجاءه على المتسبب في ذلك، لكن الحلفي ذهب الى ابعد من ذلك فقام بعتاب مرير ومبكي مع الوطن في قصيدة رائعة اسماها ظلم العراق يقول في بعضها (يحلالي العتب يا وطن وياك.... لان بس الاحبهم عاتبتهم.... وتدري شكد احبنك وأهواك... بكد ناسك الفقرة العذبتهم... ابصغري كالو اطلع ترى يأذيك.... وصدك أذيتني وما صدكتهم... اهلي من طحت فزعولك اركاض.... عثرو بيك تالي وطيحتهم........) وتبلغ الشكوى ذروتها عند الحلفي فيصرخ معاتبا الوطن بصدق الواقع الذي عاشه ويعيشه وهو الفاقد شقيقه حين قام النظام الصدامي باعدامه وهو يقول( المو ولدك ارتاحو يا وطن بيك.... او ولدك على العالم طشرتهم ...ولدك علكوك اكلادة على الجيد.... وانت على المشانق علكتهم.... حركو روحهم من كلت بردان... ودفيت وصارو ارماد ودستهم.... صارولك ورد ضنوك فلاح ماتعرف تشم ليش اكطعتهم)، هو عتب بصيغة استفسارية مع وطن يعده الحلفي ظالما للكثير من ابناء جيله، فيمطره بكل تلك الصور الحزينة التي يرى فيه الوطن غير منصف لمن عشقوه حد الادمان ومنهم الشاعر الراحل.

المتناقضات عند الحلفي

الصورة الشعرية عنده معادلة غرائبية لا يتوقعها المتلقي، ويأتي دائما بماهو خارج عن المألوف ويوظف المألوف فيه ليسحر متلقيه بالشعر العذب المرسوم بخيال الحلفي المنفرد بسلطنته الخاصة، سواء كانت القصيدة للوطن او للحبيب او لراسم معاناته الاولى الانسان الفقير، ففي قصيدته (ياقوافي) يأخذنا الى عوالم المتناقضات التي يراها ويحاول ان يجد لها مبررات، ولكنه يطرحها على طاولة المتلقي لتكون ناضجة في كل وقت يقول فيها (ياقوافي من جبح هذا الزمان.. الرمش بس يرمش أيخاف الجفن... والثقة انعدمت بعد ماكو أمان .. طلعت اويه الريح متفقة السفن... والمصيبة انكلب تعريف المكان ..الميت إيظل فوك والحي يندفن.... احنه بلــّة اكبار نقبل لمتحان... زين ليش البلمهد هم يمتحن)، وهنا تنزل الاسئلة كالمطر على طاولة استفسار المتلقي، ويقف حائرا امام تلك الصور محاولا ان يفسرها كل على هواه وعلى مايعانيه، من هو الجفن الي يخاف الرمش، واي السفن التي اتفقت مع الريح، في حين ان المتنبي يقول تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن، ومن هو الميت الذي صعد اعلى السلم، في حين الحي قد تم دفنه بالمقابر، ومن ثم يشكو حال الرضيع الذي يتعرض للمحنة بعد ان قنع بحاله وحال مجايليه، ولكنه يوضح الردود لبعض تلك الحالات في نفس القصيدة حين يقول (الأخو يسأل أخوه عندك اخوان... والابن يسأل ابوه عندك ابن... كبل من ينطك خشم تهمل العين... هسة هية العين تضحك عالخشم).

الغزل في قصائده

مثل ما تفنن بعتاب الوطن وعشقه والشكوى من الزمان وتقلباته أبدع في عالم الغزل حتى اصبحت قصائده تملأ الفضائيات المهتمة بهذا اللون الشعري، وملأت شبكات التواصل قصائده الرائعة التي سحرت العشاق بغرائبياتها التي تفنن الحلفي في ايصالها لهم وهو الذي وصف عذال محبته بقوله (قشمروني وجان ظنهم قشمروك... وغلطو أكبر غلط جي ما فكرو.... عود باعوني وعلى عنادي اشتروك... وانتة آنة إذن هم اتقشمرو)، ويبعثه الخيال الى ابعد من ذلك حين يصف جمال المحبوبة التي يهيم بها بقوله(من كد ما حلو محد مشة وياك ... والماشاك هم ما ظل يماشيك... إهو ماشاف دربة اتعثر وطاح... لإن كضاها بس يعاين إعليك!!)، وتتواصل صوره الجميلة على الرغم من المبالغة بالمحبة التي تتصف بها قصائده في وصف المحبوب حتى يبين في احداها انه مع الحبيب ضد نفسه من اجل نيل حبه الدائم فهو القائل (هوه غيرك من اشمنة أموت... لاكن ارجع عدل من اشتم هواك... تدري آنة أشكد أحبنك بحيث... من تهد أنت علية أفزع وراك) ويتواصل ذلك الفيض الشعري المسوّر بالموهبة والخيال الواسع، وقد يخرجه من دائرة الصدق والواقع ليتجه تحت شجرة الخيال والحلم بصور سحرية لاتجدها الا عند المجانين، وهي ما ينطبق عليها القول "ان الشعر أعذبه.. أكذبه"، وذلك حين ينشد في إحدى قصائده (كل حلو ينباس بس إنت الوحيد... دخنه بيك وعدنة صارت هوسه.... خدك يكهرب واليبوسه يطيح.... كمنه من إبعيد ناخذ بوسة).

ازهيرياته وابو ذياته

الحلفي مثل بقية الشعراء الكبار طرق اغلب قوالب الشعر الشعبي وأبدع فيها الى حد الجنون، فهو كتب الازهيري وابدع فيه، وكذلك الابوذية، والنصاري والقصيدة الشعبية الحرة والمقفاة وباسلوب واضح لا غموض فيه الا ماندر واجاد في جميعها ليصبح ظاهرة تستحق الاهتمام والاحترام من مجايليه من الشعراء ومن الناس البسطاء الذين عشقوه شاعرا وانسانا جسّد معاناة الفقراء خير تجسيد وعاشقا لوطن مبتلى وهو الذي يقول في احدى ازهيرياته واصفا ذلك العشق (ايام غربة قهـر نـيران ويشلوطن... ودكات كلبي عرك احاه علن ها وطن... شيطان وسوس الي وبراسي دندن وطن... خلاني عفت الاهل بيت وتركته وارض... كتله دريض ولك بس ما تـهده ورض... بالغربة حطوا الي بكل كتر كسر ورض... ومن كطعوني وصل كل وصلة صاحت وطن) على الرغم من معاناته ومرضه لكنه بقي وفيا للعراق في كل شيء، وعاشقا لا ينافسه على سلطنة الغزل غير الحلفي نفسه، وللأبوذية حين يكتبها يحاول في كل بيت ابوذية ان يجعل منه قصيدة قائمة لوحدها سواء كان عاشقا او معاتبا فيها(موش إحنة بحلاتك منتمرنة... دمرنة وضوك وشبع منتمرنة... نطشلك واهلية من تمرنة

ونحط جادر إذا مابيك جية) وفي بيت آخر يصف خصامه مع الحبيب قائلا (إبحبك مرة أيس مرة مني... سهامك عيد عدي مرة مني... مرة ألزعل منك مرة مني... ومرة إثنينة نزعل علية).

في خميس شباطي عام 2011غادرنا هذا الذي ملأنا صورا ودهشة الى مقبرة وادي السلام وهو في العقد الرابع من العمر بعد ان استوطنه المرض ولم يلتفت احد سواء من المسؤولين او المعجبين الى حالته، لكنه يبقى خالدا بشعره ومحبته للناس وبالطريق الشعري المتميز الذي اختطه لنفسه.

مختارات من شعره

تسوه الدنيا

تسوة الدنيا عندي من اكعد وياك :: وبدونك كلشي ما تسوه دنيتي

من اطب لبيتكم اشبك على الباب :: ويشبكك بابنه من تطب بيتي

فرق مابين عمري وعمرك هواي :: وكمت لخاطرك اصبغ لحيتي

ومن روائع عبد الحسين الحلفي قصيدة غزل

لا تصفن ترى تنزف الصفنات وجرح الصفنه ما عاش اليضمده

الجرف يرتاح من يصفن على الروج وصفنته تنتحر من تجي المده

شوف السده رغم اتعارض الماي بس الماي ظل شابك السدهش

عرض مقالات: