قدمت الفرقة الوطنية للتمثيل مؤخراً عملا مسرحيا جديدا للفنان الكبير جواد الاسدي تأليفا واخراجا، وهو ثاني عمل عراقي يقدمه لدائرة السينما والمسرح بعد عودته من منفاه طيلة عقود. وقد عرفت المسارح العربية والدولية العديد من اعماله: الشام . بيروت. برلين. باريس. وفي صوفيا بلغاريا حيث أكمل الاسدي دراسة الدكتوراه في ثمانينيات القرن الماضي.

كرس جواد كل كيانه وحياته للمسرح حتى أصبحا ،هو والمسرح، توأمين لا تنفصل عراهما على طريقة الزواج الكاثوليكي! واستمر بعطائه في مختلف العواصم على الرغم من المنفى القاسي.

شاهدت عددا لا باس به من اعمال جواد الاسدي، التي قام بتأليفها واخراجها ولم اجد عملا مشحونا بالعاطفة وبهياج روحي مليئا بتوهج عاشق لوطنه كما لمسته في " حنين حار"!

قصة عائلة تتشكل من فنان تشكيلي (جبار مناضل داود) ومغنية ( شفيقة آلاء نجم) تعشق الغناء في بيت مفتوح على الجمهور الذي لامسته قصة هذه العائلة في اكثر من موقع. فضلا عن وجود ابن اخت "شفيقة"، عازف الكمان ( عامر امين مقداد ) الذي يضفي على القصة الرئيسة، قصته الشخصية المزدانة بحزن شفيف يثير الفرح في نفس المتلقي!

الاب جبار له تجربته الخاصة في ظل نظام فاشي معاد لوجود الانسان الحر بطريقة تفكيره وبحياته وبأسلوب عيشه، وحين يعتقل جبار، حسب روايته، يخبرنا بأساليب التعذيب البشعة التى مارستها مجموعة من قتلة النظام السابق ضد المعتقلين. ويتساءل جبار :  من اي رحم خرج هؤلاء القتلة؟ ويترك لنا جبار التفكير بالبحث عن الجواب. اما زوجته "شفيقة" فلها تجربة اخرى مع اولئك الفاشست حين رأتهم وهم يهاجمون دارها ليعتدوا على ضيوف والدها والاعتداء عليه بالضرب المبرح، وسحبه الى المعتقلات المنتشرة، آنذاك، في ارجاء الوطن بشكل مرعب وامام هذه الصدمة تفقد شفيقة أثمن شيء في حياتها وهو صوتها الذي تغرد به امام مشجعها الاول، والدها واصدقائه. اما عازف الكمان عامر فله قصة اخرى في زمن اخر ليس بعيدا عن ذهنية المتلقي، وهو وجود داعش في مدينته" الموصل " حيث يتم القاء القبض عليه، ويقدم الفاشست الجدد على تهشيم روحيته عن طريق تحطيم آلته الموسيقية. لم يتوقف جواد الاسدي عند الماضي للبكاء على اطلاله، بل انه ربط ذلك الماضي بحاضرنا الصدئ.

زرع جبار في جسد زوجته جنينا يملأ البيت فرحا، وفي غمرة نشوتهما بهذا الجنين تسأل شفيقة عن معنى ان ينمو جسد داخل جسدك! ولكن مع تواتر القصة وتصاعدها ترفض شفيقة الإبقاء على هذا الجنين لأنها تعتقد بان الطفل الذي يولد ويكبر غدا، بمشقتها ودموعها، سيكون ضحية لحروب الاخرين! وتذهب فعلا لإسقاطه قبل ان يتسلل القاتل القديم نفسه بزيه الجديد! وبهذا يمزق جواد الاسدي الستار عن حاضرنا المعتم الذي فقد فيه جبار شقيقه عبدالله في حادثة تفجير ارهابية استهدفت العمال المفترشين "ارصفة الانتظار" في ساحة الطيران وسط بغداد!

ولا يمكن لجواد المعروف بتوجهه الفكري الانساني التغافل عن تضحيات الشباب الجسيمة في سوح الاحتجاجات ودورهم الكبير في رسم ملامح وطن جديد ناضل من اجله جواد طيلة حياته، فيأتي مشهد عازف الكمان حين يجيب جبار عما سيقدمه من معزوفة لو اجتمع عباقرة الموسيقى مثل بتهوفن وشتراوس وجايكوفسكي:

"سأعزف لهم عن ارواح اولئك الفتيان الطهرانية يجرون خلفهم بيوت القهر والتنك والجوع

سأعزف لهم حتى يغمى علي.. سأعزف لهم حنينا حارا.!".

عالج جواد قضية اخرى يبدو انها تؤرقه وهي موقف الفنان مما يجري في وطنه وذلك من خلال احتدام النقاش بين جبار وزوجته شفيقة التي تدين اداءه الفكري الممثل بعمله الفني الذي لا يلامس مشاكل الناس.

اما القضايا الفنية من اداء الممثل الى السينوغرافيا وانتهاء بالإخراج فان اللعب مع الكبار يتطلب ان تكون كبيرا وهو ما حققه الجميع بوجود الاسدي قائدا لأوركسترا "حنين حار" التي شكلت صرخة مدوية الى جانب ساحات الاحتجاج!

عرض مقالات: