لقراءة رواية (مسيو داك) للروائي نزار عبد الستار الصادرة عن دار هاشيت انطوان، علينا اولا التنحية مؤقتا عن ثيمة الرواية المتعلقة بمحاربة حشرة تهدد اشجار الكرز في بيروت من قبل عالمة النبات (ربى) بمساعدة حبيبها (زياد)؛ ذلك ان الموضوع الأهم الذي شغل خفايا النص هو الحب بطريقة وجودية وهو ما نتلمسه بصدق ونحن نخوض غمار الروي الى الحد الذي يجرنا كي نتذكر ذلك الاتقاد الروحي ما بين (سارتر وسيمون دو بوفوار) أو بين (مارتن هايدجر وحنة أرندت) إذ ان الرواية تنقلنا الى جو عاطفي له خصوصية الكشف عن فكرة تنشئة الحب مع البدء بحياة جديدة يتفق عليها الحبيبان على ان تكون غير موصولة بالماضي ولا علاقة لها به، الامر الذي يضع الشخصية وجها لوجه امامنا على نحو ما هو مترسب في صميم علاقتها بذاتها، وبالعالم ومتطلبات ديمومة تلك العواطف المقترنة بالمحافظة على حرية الآخر والسمو به روحيا ونبذ قضية احتكاره والاحساس بتملكه، وهي هنا تعبر عن فعل وعاطفة قبل ان تبتكر فكرا وتصورا .
علينا القول اننا حين نذكر ان الرواية تحمل فلسفة وجودية، أو تبث افكاراً لها لا نقصد بالضرورة ان هناك قضايا معينة وقوالب جاهزة في الروي تتطلب البرهنة عليها، أو إن هناك تعاليم عقلية تعمل الشخصيات على اثبات صحتها، بل نحن نجد مواقف انسانية معاشة، ومفردات يومية تمس الوجدان تربط الخاص الذي يتعلق بأحاسيس كل من (ربى وزياد) بالعام الذي يتعلق بإنقاذ اشجار الكرز في بيروت من خلال حوار يتم بينهما وهما الشخصيتان الاساسيتان في الرواية وهما يتحدثان عن حشرة الـ ( mevia)
طلبت مني ان احملها على كفي والقي بها خارج الجنينة، وحين ترددت، وقلت انها قد تعود لتحاول مرة أخرى، قالت وهي تعيد تفاعلاتها مع الواقع:
ـ الحشرات تموت ولا تغدر.
إن كل قضية كانت تطرح فيما يخص العالم الخارجي متمثلا بتلك الحشرة وأشجار الكرز هي بالمقابل تعطي تصاعداً لأبطال الرواية وهما يعمقان من قضية الحب الوجودي التي الزما نفسيهما بها الى ان يصلا الى مستوى الارتباط بالموقف الانساني من الحياة بأكملها، بما يحمله من قدرة فائقة ورؤية ثاقبة لحاجتهما الى دليل يشير الى إمكانية البحث في حياتنا اليومية عن مستوى موقفنا من الوجود، فكل حادثة تحمل عمقا يصل بها الى جذور الحياة في معناها وجدواها وعبثها ايضا.
سوسيولوجيا شخصيتي الروي
هناك نصاعة وجودية تكتنف شخصيتي (ربى وزياد) اذ نشعر ازاء كل واحد منهما اننا امام شخصية واعية لا تنتظر منا ان نتعرف على طابعها الخاص، أو ندرجها تحت بعض الأنماط الشخصية العامة، على الرغم من ابتكارهما نوعا من الحياة الخاصة بهما ذلك ان الشخصية في مثل حالهما تقوم هي نفسها بمهمة التحليل والكشف لحسابها الخاص وهذا ما نجده حين يتحدث زياد عن ربى بالقول (اجلس على الارض ملاصقا جهتها من السرير، واستعمل نظارة القراءة في تدقيقها وفحص منحنيات جسدها... كنت لا اعرف هل هرمت ام تجددت. في كل مرة تعطيني شكلا سرعان ما يفلت مني. ربما لأنني في الخمسين، او ربما لأنها لا تكرر نفسها) ص69. وهذه صورة مبسطة للشخصيتين، غير ان الروائي لم يشأ لشخصياته الرئيسة في الرواية ان تكون بمثابة موضوعات دراسة، بل وكلّ لها قيادة ذاتها وانتقاد سلوكها والتعليق على تصرفاتها، بغض النظر ان كانت هذه الصفات التي تطلقها موجودة فعلا ام هي مجرد اسقاطات او تكهنات او خيالات، وهذا ينطبق حتى على الشخصيات الثانوية التي كان يقدمها الروائي لاستكمال مشهدية الاحداث التي كانت تدور في بيروت ما بين مدينتي حمّانا وبمهرية.
ان (ربى وزياد) يحملان مشاعر انسانية تبلغ أعلى درجة من الصدق والأمانة والتوتر، وقد يضيف احيانا تفوق زياد على ربى في قضية الاهتمام حتى ليشعرنا احيانا انه يعتني بطفلة او ربما هو أسس فِعاله مع ربى على ذلك كي يرسخ في اذهاننا مفهومه للأنوثة على وفق مدركاته وطريقة تعاطيه مع هذا المفهوم، وما يثبت ادعاءنا هذا مفاجأته لنا في المشهد الأخير من الرواية حين يصحو من نومه ولا يجد ربى بل يجد طفلة في الرابعة من العمر تظهر بشكل مفاجئ وهي تحمل صحنا فيه حبات كرز .
اما ربى فهي على الرغم من حبها لزياد واتفاقها معه على طريقة الحياة التي تتسم بالحرية المطلقة، نجدها كائنا مشخصا في الرواية تربطه بالعالم علاقات دينامية معقدة؛ فوجودها في حلبة ذلك الحب المتقد تنتهي حالما تنتهي علاقتها بالاطار الخارجي المتمثل ببحوثها وتجاربها مع الحشرة mevia) ( وهذا يثبت ان كلاًّ من (زياد وربى) يتضحون لنا من خلال تجاربهم الوجودية وحضورهما امام العالم واستناد كل واحد منهما الى ذاته وحدها، مع مقاومة الذوات الاخرى له، واختياره نفسه بمقتضى حريته الخاصة كما يقول زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الفلسفة"، وهنا يجدر التساؤل ما علاقة الطباع والمظاهر الجسدية والمادية والبيئة المحيطة بها ؟
وللإجابة عن هذا التساؤل يجب علينا عدم اغفال الجانب الميتافيزيقي الذي عادة ما يعتمد عليه الروي ان كان يسير على وفق مقومات وجودية، فوجود الحشرة الضارة أمر طبيعي، أما منحها صفات محاربة وان لها ارادة لا تقهر فهذا يرتبط بتصرفات غامضة كانت تنتهجها ربى فإنها تحتاج الى تفسير، وتحتاج من القارئ الى ان يندمج في حركة الرواية وتسلسل احداثها لكي يدرك كل نأمة ويحللها في آن واحد ولكي يشارك في تصرفات الشخصيات وبواعثها في الوقت نفسه علّه يستطيع خلق التوازن بين تصوير المناظر وتسجيل الأحاسيس وبين عرض الاحداث وتحليل العواطف، فالراوي حين يوظف منطق العاطفة يريد به ارضاء الرغبات وهذا بالنتيجة يحتم عليه الاستناد الى المشاهد العاطفية التي ترد في أشد اللحظات عمقا وأدقها وعمقها في النفس الانسانية، وهي بالنسبة للمتلقي تشكل دلالات يستطيع من خلالها ادراك تصوراته حول الشخصية وتكاملها وتناغم عناصرها.

عرض مقالات: