في ليلة شتائية ، لم تكن السماء يومها رحيمة ، اختلط فيها الرعد والمطر، غادرتنا السيدة التي أمضت أيام عمرها وهي " مكبعة " ذهبت مع حبات المطرالى الملكوت، ولأن الطرق لم تكن سالكة وأمينة في تلك الايام من عام 2006 لهذا قرر الاخوة والأعمام أن نعود بالتابوت الى البيت بانتظار الفجر، فرحت بهذه العودة المؤقتة الى البيت، أمضيت ليلتي جالساً قبالة التابوت ـ ربما هي لحظات فرضت نفسها بقوة على روحي ـ دقائق تتداخل مع الحياة التي توقفت في الجسد العملاق الذي كان ضاجاً بالحكايات والاساطير الجميلة، تخشبت أمام التابوت بلا كلمة ولا دمعة، لاشيء سوى تداعى شريط طويل لأيام العمر ـ وكان كله من الماضي ـ عدا بضعة ثوانٍ كان موضوعها سؤالا فقط لاغير " أي مكان سيكون مناسبا كي أواري به الجسد الطاهر ـ وبلا أدنى تفكير قررت أن يكون قبرها قرب قبر من هيمن على قلبها وعاشا معا كل الحكايات، ولا أعلم لماذا تداعت كلمات أنشودة الاناشيد " مكبعة ورحت أمشي يمه بالدرابين الحزينة " في مخيلتي حالما تخيلت أنهما عاشا متلازمين في الحياة، وهكذا سيمضيان الى البرزخ وهما قريبان من بعضهما لاشيء يفرقهما .. لم تفرقهما السجون ولا بواباتها المعتمة ولا دروبها المقفرة، قلت ربما اذا كانا قريبين من بعضهما وهذا الأمر سيتيح لي الجلوس قرب القبرين وأنا أستعيد رحلة عمر عاشاها معا.. تشاركا في حياة كانت صعبة وازدادت صعوبتها وكبرت حينما ابلغت بعد اسبوع من " انقلاب " شباط الاسود بان زوجها اقتيد الى السجن بتهمة الانتماء الى حزب يسمونه "الاحمر" وبدأت رحلة حمل الصرر والاكياس والزنابيل الى السجن .. ومن سجن الى سجن تواصلت الرحلات والأسفار عبر المحطات والكراجات والمعتقلات، حتى خروجه بعد أكثر من سنتين ملونتين بالقحط، وفيما بعد اتذكرك اماه وانت تحملين خوفك واصرارك وأنت تفتحين الباب لخفافيش البعث وهم يطرقون الباب يسألون عن ابنك كان هذا حينما استقيظنا في صباح من صباحات عام انهيار (الجبهة) .. ولم نجد احدا من رفاقنا .. اتذكر اقتراحك بأن أتخذ من الغرفة الخلفية مخبأ لي بدلا من الهجرة التي كانت ضدها، وحينما ذكرتها بطرقات الباب في اخر الليل قالت ـ بني دعك منهم انا كفيلة بالخروج لهم حينما يطرقون الباب " وحقا بدأت رحلة الاصرار ... يصرخون في وجهكِ وتصرخين في وجوههم، اصرارك وشجاعتك أخافتهم .. فتوقفوا عن التقدم خطوة او تجاوز عتبة الدار .. وبالتدريج توقفت مداهماتهم الكاريكاتيرية الكريهة الى البيت، ربما اكتفوا بزرع عيونهم قريبا من البيت . وفي الحرب ـ فيما بعد ـ بدأت رحلة " الفرارية " اولادك كانوا مصرين على عدم الإلتحاق بالجبهة ... وهذا الأمر أدى الى أن يتعرض البيت الى الكثير من الغارات ابطالها الأقزام الانضباطية والتحريات ، لكنك احتملت كل هذا .. وكنت كلما قبضوا على احد ابنائك .. تواصلين مشاوير حمل العلاليق وأنت "مكبعة تقطعين المشاوير الحزينة في الازقة الحزينة " أماه أيتها ـ المكبعة الشريفة ـ أنحني وننحني نحن اولادك لشجاعتك واحتمالك كل تلك المشاوير التي قطعتها والابتسامة لم تفارق وجهك حتى وأنت نائمة أمامي في هذا التابوت البارد في ليلة تشرينية باردة .

عرض مقالات: