لا شيء اليوم يخلو من الأيديولوجيا، بدءاً بالحب والدين واللغة، والاقتصاد والسياسة والادب وكل ما له علاقة بحياة الانسان اليومية، وما يولد له موقفاً من الحياة.
فاذا لم يعبر الادب عن موقف إزاء الحياة، وما لم يولد موقفا لدى المتلقي، والمتفاعل مع هذا النص الادبي نثرا كان ام شعراً، موقفا قد يكون جمالياً وفنياً، او موقفا إزاء ما يجري من الحياة، فانه سيعود بنا الى نظرية (الفن للفن) وليس للحياة، ونحن نعرف ان عظمة الادب وخلوده يكمنان في انفتاحه على الحياة، وليس الابتعاد عنها، او الانغلاق على نفسه في داخلها.
ان شعراءنا الشباب – وقتذاك – نازك الملائكة والسياب وبلند الحيدري، قد فتحوا الباب لشعراء شباب آخرين التحقوا بهم، كرشدي العامل وسعدي يوسف ولميعة عباس عمارة وغيرهم الكثير من الشعراء، لينضموا الى هذه الكوكبة، ليمضوا سوية نحو تجديد البنية الفنية، وتغيير الجملة الشعرية وتنويرها بما ينسجم مع ما يدخره الفن الشعري من متعة فنية، ووظيفة اجتماعية وتقديم ما هو أجمل فنياً، وغير معروف وغير سائد رؤيوياً بهدف خلق المتعة والدهشة وبما ينسجم مع طموح المتلقي.
هؤلاء الشعراء اختاروا طريق الالتزام بقضايا مجتمعهم ومعاناته، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وهم لا يملكون سلاحا في دفاعهم عن مجتمعهم سوى سلاح الادب بأشكاله التعبيرية المختلفة، لذلك كان عملهم موزعاً على جبهتين جبهة الشعر وتجديد بنيته الفنية وجبهة الدفاع عن المجتمع، واحقاق حقوقه التحريرية، وآماله في مستقل أكثر اشراقا. الامر الذي غرس في ضمائرهم حبا جنونياً للعراق، كوطن يمتد في عمق التاريخ آلاف السنين، لذلك وجدناهم يتشبثون به، ولم يختاروا غيره بديلا.
وبعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة في العقد الخامس من القرن الماضي، اتسع نطاق حركة التحرر الوطني العربية، فوجد هؤلاء الشعراء انفسهم منحازين الى جانب هذه الحركات، ليكونوا ايقاعا لها، وتفجيرا لرموزها الحضارية والإنسانية.
من جانب آخر كان هؤلاء الشعراء قد استوعبوا مزاج مجتمع ذلك العصر، وتطلعاته ورؤيته الاجتماعية والفكرية والسياسية والثقافية.
هذا الامر اثار غضب السلطات الحاكمة، فراح عسسهم يلاحق هؤلاء الشعراء بهدف اسكاتهم وتغييبهم وكان اول الملاحقين الشاعر السياب الذي هرب الى ايران ومن بعدها الى الكويت التي عاش فيها متخفيا لسبعة اشهر، عانى خلالها الشاعر اقسى عذاب التشرد والاختفاء، لكن المعاناة دفعته واستفزته وفجرت في داخله عبقرية الشاعر، ليكتب اجمل وانضج قصائده، كقصيدة: "انشودة المطر" و"غريب على الخليج" و"الأسلحة والأطفال". وقد ترجم هذه المعاناة شعراً، ورغم الفترة القصيرة التي ابتعد فيها عن العراق فانه اظهر فيها حبا جنونيا لوطنه، فقد كانت قصيدة "غريب على الخليج" سفرا خالدا عبر فيه عن حبه حتى انه ذكر كلمة (عراق) في هذه القصيدة 14 مرة عدا كلمة الوطن، وعدا الأمكنة التي كان يرتادها في طفولته.
وبذلك افتتح السياب بوابة المنفى لكل عراقي وطني، شاعرا كان ام غير شاعر اضطهدته السلطات الحاكمة، ولاحقته وحرمته من العيش في وطنه. وكانت قصيدة "غريب على الخليج" قد حملت سر خلود هذا الشاعر في غربته الأولى في الكويت:
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه ومن الضجيج"
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق
وليس هناك ألم في الشعر العربي يضاهي ألم السياب، وغضب يوازي غضبه، الا عند قلة من الشعراء العرب، الذين صمدوا سواء في منفى الداخل او الخارج، كما يقول عباس بيضون في مجلة "المسلة".
وحين نتواصل مع هذه القصيدة نجده يقول:
الريح تصرخ بي عراق
و الموج يعول بي عراق ، عراق ، ليس سوى عراق ‍‍
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
و البحر دونك يا عراق
ان هذه القصيدة كانت حقا سفرا وملحمة يمكن ان يستمد منها العزيمة والإصرار على حب الوطن:
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
ومن يقرأ قصيدة "اقبال والليل" التي يرجح انها آخر قصيدة كتبها الشاعر في الكويت، وكانت غير مذيلة بتاريخ يشير الى زمان كتابتها، يشعر فعلا ان بدرا لن يتخلى عن التزاماته من أعماق وعيه، ولم يلوث صدق انتمائه، ذلك السلوك الانفعالي المضطرب، الذي اوصله الى ذلك الدرك الخطير من الانهيار الصحي والشعري، وهذا ما ينبئنا به الكثير من اشعاره.
ان الشائع في اوساطنا الاجتماعية ان الانسان الذي يحتضر ويعاني سكرات الموت، تلح عليه رغبة جامحة لرؤية اعز الناس وأقربهم الى قلبه، وهذا هو السياب يتفقدهم واحدا واحدا بمن فيهم (الرفاق) الذين قاطعهم منذ فترة ليست بالقصيرة.
وقبل عام من رحيله في 1964 كتب وصية لأبناء العراق، وصية محتضر، يرى شبح الموت ماثلا امامه في غربة اقسى من مخالب الموت المغروزة في قلبه وفي بدنه، كتب وصيته بلغة الموتى وعذاب الغرباء يخاطب من خلالها الاحباب من أبناء شعبه:
لا تكفروا نعم العراق
خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء
اما الشاعر عبد الوهاب البياتي فقد كانت توريته طاغية في قصائده، وقد توزعت بشكلها المباشر على 50 قصيدة ضمتها دواوينه العديدة. ففي ديوان "اباريق مهشمة" ديوان الثورة والالتزام وادب الواقعية الثورية يحدد البياتي خياراته ويثبت أسس مرجعيته الفكرية والمبدئية بشروطها الفنية، وقيمها الشعرية وشاعريتها المدهشة.
ومنذ الثلث الأخير من القرن العشرين وحتى بداية القرن الحادي والعشرين تعرضت البلدان العربية ومنها العراق الى ردات وانتكاسات خطيرة بدأت تطفو على سطح الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية دون ان تجابه هذه الانتكاسات بموقف صلب تخلقه عقول صانعي الحضارة والثقافة المعاصرة، عقول شعرائنا وأدبائنا ومفكرينا وكتابنا، الذين توارثوا مجد الابداع العقلي والفكري والثوري الخلاق، وقد دعاهم شاعر المنفيين البياتي منذ زمن بعيد قائلاً:
على الشاعر ان يختار
ما بين ربيع الأرض المتمرد والعبد المخصي بباب السلطان
ان انغام قصائد الشاعر البياتي انطلقت منذ منتصف القرن العشرين. وعن العراق وابنائه تكثفت جل مشاعره واحاسيسه وراح يصوغ ما يراه شعرا رقيقا عذباً، وما يقوله صيحات ألم وغناء للثورة والثوار.
ففي "12 قصيدة الى العراق" التي كتبها عام 1957 يقول البياتي في مقطع من مقاطع قصيدة من قصائده، التي خصصها لمشهد من مشاهد تعذيب احد المناضلين:
ذاك الرفيق الأسود العينين شاهد
نزعوا اظافره
وظل طوال الليل صامد

عرض مقالات: