ان يكون المرء مثقفاً (اكاديميا - شاعرا- باحثا- اديبا- رساما - اعلاميا ...) فسيعني ذلك موضوعيا انه من النخبة المؤثرة في مسارات الفعل والحراك المجتمعي - الوطني، بهذا القدر او ذلك، من خلال كتاباته او لوحاته او ارائه. يتفاعل عبرها مع قضايا الناس، ويتفاعلون معه، يفكر معهم، او حتى نيابة عنهم، بما استطاع او يستطيع.. اما درجة ذلك التأثير، وحجمه، فمعلقٌ بحسب ظروف عدة ومنها مساحات النشر العام او الخاص، وغير ذلك من طرق الوصول الى المتلقي/ المتلقين، والتواصل معهم، الى جانب موقعه الشخصي والعام، ووفق ما يستطيع ان يقنع به الناس طبعا ..
وفي ضوء الواقع اعلاه، تترتب على المثقف الوطني، سواء المعارض او الموالي- الموضوعي طبعا - التزامات ثقيلة ومجهدة، لا يقدر على التصدي لها سوى القليلين ممن يستطيعون المواكبة، وتحمل عناء المجاهرة بالرأي والموقف، والدفاع عنهما، وحتى في سبـلٍ قلّ سالكوها، بذلك الشأن او غيره، وكذلك التوقعات حوله، واستقراء افاقه وتداعياته .. كما انهم -المثقفون- اولئك الذين يدركون مسؤلياتهم وعواقب ما يدعون اليه، وينشرون حوله والذي "قـد" يقود لمزيد من الاستكانة او الهوان والخنوع، او من العنف والاحتراب والتشظي المجتمعي لأضعاف ماهو سائد ويسود، بل ويتفاقم يوما بعد آخـر، برغم ما قيل ويقال من اختلاف حول ذلك.
وفي حالنا التي نعيش، وبرغم كل ما شهدته فترة التغييرات السياسية، منذ سقوط/ اسقاط النظام الدكتاتوري، الى اليوم، من دماء وعسف، وفساد وتعقيدات مؤلمة ومؤسية، لا اظن ان بالمقدور تجاهل ما تحقق بعد عام 2003 من حريات تعبير، مطلقة او محددة، وظروف ديمقراطية، كبرت او قلت.. ومن هنا توفرت للمثقفين عامة فرص ومجالات واسعة للادلاء بالاراء والمواقف والكتابات الصريحة، مؤيدة كانت او معارضة.. وذلك ما أظهر – ويظهر- الكثير والكثير من الجدالات الحيوية، والفاعلة، وبصور تتجاوز احيانا الكثير من الاساليب المعهودة التي تعامل معها، ويعتمدها المنتمون لتلك النخبة المثقفة.
ان من الطبيعي ان يبرز أكثر فأكثر دور المثقفين، المعنيين بالشأن العام بشكل رئيس، خلال الازمات الوطنية – دعوا عنكم السياسية- وان تتوالى الاراء والمواقف وتتباين، بل وتتصارع، وتتنوع بين التوعية والحث والتنوير من جهة، والتحريض والتأليب، وحتى التأجيج، من جهة ثانية.. وما هي عليه البلاد اليوم اوضح شاهد على ما نحن بصدد التوقف عنده. وكل ذلك اوقع على كاهل المثقفين مهاماً اكبر وأخطر، لا بـدّ وان يسجلها التاريخ ايجابا او سلبا، بالثناء أو الانتقاد، على المعنيين، وبالاخص القادرين والجريئين الذين لا يكتفون بالمعارضة والشتم، بل وبطرح البدائل واقتراح الحلول والمعالجات، واساليب واشكال اعتمادها..
لقد نشرت قبل ايام على صفحات التواصل الاجتماعي همسة، او لقطة، علّها توجز بعض حال الواقع الثقافي وأصدائه، وانعكاساته الاعلامية وغيرها. وها هي تلكم الهمسة بنصها المنشور: ".. ومما افرزته الاحتجاجات الشعبية ضد الفساد والتسلط : انها كشفت بمزيد من الوضوح، مستوى الوعي والادراك الفردي والجمعي الراهن، وحاله، المنطقي، او العاطفي!".. وكم كان مناسبا لو كنتُ قد ثَبـتُّ مع تلك الهمسة / اللقطة بضعة نماذج من الكتابات المتداولة اليوم في وسائل الاعلام المختلفة، مع اسماء ناشريها، وخاصة المثقفين منهم.. ولكن أعترف بأنني أحترزتُ من ذلك "الرصد" والاضافة خشية من ملاحقة اقلام واصوات ذوي الصلة !.
وهنا، ولربما من المفيد ايضا في هذه الكتابة التوكيد هنا بأن المثقفين هم المعنيون الاوائل بتوضيح الوقائع، وتوثيق الاحداث، للجماهير، والرأي العام، مع الملاحظات والتقييمات، والاراء المناوئة او الموالية. ولكن الملاحظ عملياً ان الجماهير والرأي العام هو الذي باتَ "يقود" المثقفين، ويشدهم للكتابة، ويفرض عليهم، كرهاً او طواعية، ان يتناولوا ويكتبوا حول الشؤون والتداعيات ذات الصلة. موثقةً كانت، ام اشاعات واقاويل وما الى ذلك. وبمزايدات عاطفية، انفعالية في احيان كثيرة، بدلا عن التعقل والموضوعية..
يقينا بأن المقصود في كل ما سبق من فقرات لا تعني بأية حال، ولا تشمل، اولئك المنتفعين من الكتابة حقا او باطلا، ولا "وعاظ السلاطين" طبعا، فتلكم "واجبات" وظيفية، والتزامات مطلوبة امام ارباب العمل، داخل وخارج البلاد!.. ولكن من الأدهى هنا ان كتابا ومثقفين وناشرين كثيرين، مؤهلين، ومعروفين بالحرص والدقة، والموضوعية والاتزان، قد اندفعوا – أو دُفعوا- لعكس ذلك تماما، وذلك هو الأدهى كما ذكرت، ولو تعددت الاسباب، وتشابكت المسببات..
وفي سياق الفقرة السابقة، اشير الى ان ما يلفت الانتباه الأكثر هو ان ثمة مرادفات عديدة يمكن لها أن تحلّ مكان تعابير السباب والقدح، وخاصة ان سجل سلطات الفساد والعسف والطائفية ملئ " والحمد لله!!" بالوقائع والشواهد والحقائق التي تتحدث عن نفسها بنفسها، مما لا يتطلب االمبالغات والافتعال والتلفيقات، التي تضعف من مصداقية المثقفين المعنيين امام متلقيهم، سيّما أن الثورة المعلوماتية مكّنت الجميع، وسهلت امامهم القدرة على توثيق الاحداث والوقائع، ومقارنتها والتدقيق فيها.. ولكن الحال – كما تبدو- بعيدة عن هذا المسار، بالمراهنة على انتشار اللاوعي، والحماسة العاطفية، وسهولة استغفال الاخريـن...
اخيرا .. نعرف مسبقا بأن هناك من سيردّ على ما سبق التطرق اليه، فيقول بأن "الاعلام معركة ساخنة ايضا" و"ساحة للصراع".. ولكنهم ينسون او يتناسون التداعيات المؤسية، والأليمة التي قد تتسبب بها الكتابات والمتابعات غير الموثقة "الشعبوية" او القريبة منها، والبعيدة كل البعد عن المسؤولية الشخصية والعامة تجاه البلاد التي تحترق، والعباد الذين ينزفون شهداء وضحايا بالمئات، وبجرحى تجاوزت اعدادهم الالاف..