تكشف الكتابة عن الأمكنة، عن معان عديدة، منها أنها تكون مطواعة لمن يمتلك معلومات عنها، وتكون عصية على من لا يعايشها، ولا يملك رؤية ايديولوجية عن الكيفية التي صيغت بها، خاصة وأن الرؤية المضببة قد تضيع تفاصيلها، فما يراه الراوي ليس كما يراه الآخرون فرؤية الآخرين ستكون مغبشة وغير واضحة، ولذلك يتكفل الكاتب بان يتولى وحده سرد حكايات هذه الأمكنة. تتم علاقة الروائي زهير الجزائري مع المكان عبر استدعاء الذاكرة الجماعية عنها، فتكون تارة بصياغته مكانًا مولدًا للثورة كما في روايته "المغارة والسهل"، حيث بداية الكفاح مع القضية الفلسطينية يتطلب معرفة تضاريس الأرض وعلاقة المغارة بالاجتماعات السرية والتهيئة للثورة التي تولد من رحم المجتمع/المغارة، ثم تتفاعل في الوديان والسهول. وتارة أخرى تتحول العلاقة مع المكان إلى طريقة بحث في تحقيقاته ورواياته حياته اليومية، وهو مجمل عمله في الصحافة. لتصل الرحلة في هذه "المذكرات" إلى الإرتباط بين ما يجري في الأمكنة  الآفلة، ومحاولة احيائها عبر الكتابة عنها. خاصة بعد أن أشبع مكان نشأته وحياته في "النجف" سردًا له طعم المذكرات أيضًا حين توارى في نصه خلف أمكنتها.

في "ضباب الأمكنة" يفتح زهير الجزائري عينية على رؤى عديدة ليستل منها علاقة ما بها، بعد أن تكون هذه الأمكنة قد جرى تغيير جذري عليها، فيضيف اليها ما حدث لها في السنوات الماضية من تفجيرات وتغييرات واهمال، عندئذ تصبح شواهد آفلة يمكنها أن تنسل من حياة الروائي لتنزوي في اقصى شعاب الذاكرة ومن ثم تنسى، أو تصبح مادة تاريخية، إلا أن كتابة زهير عنها،عبارة عن محاولة إحيائها من جديد.فلقد سكن العراق ثانية، وانتبه إلى أن السرد الحديث يوجب الصلاة في الأمكنة المعاشة، وليس المرور بها ، والصلاة هذه المرة سميت مذكرات، بمعنى تأسيس لعلاقة الأنا بأناها. وعندي أن ما كتبه زهير الجزائري ليست مذكرات، بل هي ذكريات جمعها من أمكنة مبعثرة ونظمها في خيط مكاني هو " بغداد"، بعد أن خصَّ لها مخرزًا ينظم تسلسلها في علاقة وجودية: بين حياة الامكنة وموتها، ونحن نعرف نقديًا أن الكتابة عن الأمكنة والشخصيات  والأفكار، تعني انقاذًا لهذه الأمكنة والأحداث والأفكار من الأفول، الكتابة هي المصل الجديد الذي يضخه الكاتب في أوصال أمكنته كي يعيد لها الحياة، لذلك كانت عبر السنوات ضبابًا، وها هي تكشف لعينيه عن نفسها قبل أن يتحول الضباب الأبيض إلى كفن يلقي بها في مقبرة سلام الذاكرة، هي إذن ذكريات وليست مذكرات، والفرق كبير كما يشير سلفرمان للعلاقة بين التذكر واستعادة الفعل الذي ولد في المكان، فالمذكرات فعل يشترك تشترك أنا الكاتب في بنيته، بينما الذكريات تمثل مرورا عبر المشاهدة والثقافة،والممارسة السطحية. أولى مظاهر الذكريات أن الأمكنة التي يتحدث عنها الجزائري لاتظهر لذاتها، بل تظهر من خلال أمكنة أخرى تقع في مواجهة بارزة معها، وتكون بغداد هي المكان الذي يُظهر بقية الأمكنة. وغالبًا ما تكون بغداد خارج الميدان الأدبي، فبغداد ليست مدينة متخيلة كي نقول عنها أنها مكان أدبي، بل هي مكان واقعي،  فالامكنة الواقعية تشكل جزءا من السيرة الذاتية عندما يكون الفعل بها خاصًا بالكاتب، ولكن لم نر بغداد إلا عبارة عن ضباب يغلف كل الامكنة التي تحتويها. ومن هنا تبدأ العلاقة مع الامكنة من انها ليست إلا جزءا من الذاكرة الشخصية وليست جزءًا من المذكرات التي هي نتاج علاقات عديدة مع امكنة فاعلة يكون المؤلف قد بنى جزءا من شخصيته فيها.. ومع أن الكتابة كلها تمت بصوت الراوي الذي هو المؤلف، وغالبًا ما يكون متكلمًا، فهي محاولة "لفصل "أنا" النَّص عن "أنا " المؤلف"، وهذا ما يخض الذاكرة وليست المذكرات. ونتيجة خبرة زهير الجزائري بالتحقيقات الصحفية والميدانية خاصة في جبهات الحروب الفلسطينية و الأنصارية في كردستان، غلب على كتابته التحرير، ففعل التحرير هو الوسيط بين الفعل الذي يمارسه والقضية والأمكنة التي تجري فيها الممارسة. ومن هنا يدخل كما يشير سلفرمان المؤلف كـ "وسيط" بين المكان والنص الذي يكتبه، عندئذ يمكن أن يكون النص المكتوب فصلًا في رواية أو تحقيقًا صحفيًا عن الأمكنة. فزهير الجزائري، هنا، ليس محققًا بوليسيًا يتقصى حيثيات الأمكنة ليكتشف مجرياتها العميقة عبر علاقته بها، وأنما هو وسيط بين الأمكنة وما جرى لها. ونحن نعلم أن كل النصوص السردية، ليست إلا عبارة عن قضية تتطلب تحقيقًا عمّا جري فيها، كما يقول تودوروف. لأنها الميدان المحتوى للأفعال. وزهير لا يحقق في الأمكنة، بل يحكي عنها.

أجد في سرديات الروائي زهير الجزائري بعض الطمأنينة حين نقرأ ذاتنا  نحن القراء من خلالها، وكأنه يتحدث عن كائن يخلقه من مجموعة كبيرة من الشخصيات التي مرت بحياته، في ضباب الأمكنة، نجد الراوي السارد، ليس زهير الجزائري فقط، بل نحن القراء أيضًا، فنضيف ما نعرفه عن شعاب الامكنة وأزقتها وتاريخها، وكل الذين زاروا وسكنوا وعاشوا وقرأوا في هذه الأمكنة وتشعباتها سيكون لهم ذكريات فيها، بحيث أصبحت أيقونات مقترنة بأحداث كما هي أمكنة الكرادة، شارع الرشيد، المتنبي، مقهى المعقدين، الجادرية، ساحة التحرير، الميدان، وغيرها، وبالمناسبة كلها أمكنة ذكريات، مما يعني ارتباطها بأحداث لها صلة ما بالوضع السياسي" أردت في هذا الكتاب أن اثبت بالكلمات واقعًا هاربًا، ومن خلال الكلمات أعطى هذا الواقع معنى ما... المكان هو هاجسي ووسيلتي". هكذا يقدم زهير كتابه للقارئ، المكان الوسيلة التي يرى فيها ما يحدث، والهاجس الذي يلازم كل تقدم ونكوص، بحيث أصبحت مفردات السياسة تقاس بالتذكر لما جرى في  الأمكنة.

عرض مقالات: