تتفاقم الأوضاع سوءاً في العراق وسوريا حتّى لكأننا في خضم كابوس متواصل لا يريد أن ينتهي، في حين تعجز المخيّلة عن اللحاق بتلك التفصيلات الدامية كما لو كانت في سباق محموم مع ذلك الواقع الفادح، وفي الوقت الذي يفترض فيه اشتغال المخيلة في أفق مفتوح لا تحده أيّ حدود أو حواجز، يتفاقم الواقع ويبتكر تفصيلاته التي تفوق الخيال بالفعل.
إن اشتغال المخيّلة أثناء عملية الكتابة تحكمها شروط عدة، ليس أوّلها الاستناد إلى واقع مقارن أو بديل موضوعي في النص المفترض، ولا آخرها استلهام أحداث معيّنة في مكان محدّد ومعالجتها مخيلاتياً، لكن عندما يتجاوز الواقع تلك الاشتراطات نفسها ويفوق الخيال فإن المخيّلة تبقى أسيرة لهاث متواصل وجافل وعاجز في أحسن الأحوال، وهي تتلمس عجزها في ابتكار عوالم بديلة يمكن أن تقدّمها للقارئ صاحب المخيّلة المستقبلة التي يفترض، حسب اشتراطات العملية الإبداعية، أن تتلقف النص وتكمل ماهيته وتحلّق به في فضاءات مختلفة ومتفاوتة حسب تفاوت وعي وثقافة المتلقي نفسه.
وحسب كريستوف لوكسينبورغ، فإن معنى نصّ ما لا يوجد ببساطة في ذهن الكاتب بل في ذهن القارئ نفسه، وطالما عملية التخيّل والخلق عصية على التفسير أو التأويل أو الشرح، ويكتنف الغموض آلية اشتغالها في أحسن الحالات، فإن النص يكتسب وجوده الحقيقي في ذهن القارئ بالتأكيد، أي أن عملية الكتابة تبقى ناقصة وعاجزة عن التجسيد ما لم تُقرأ.
تذكّرت تلك التأويلات والقراءات السابقة عندما صُدمت قبل أيام بدعوة تلقيتها من شاب وسيم يضع صورة جميلة اعتقدتها أوّل الأمر لممثل أجنبي من فرط جمالها. كان يطلب صداقتي على الفيسبوك، وعندما لبيت دعوته وقبلت صداقته عاد ليكتب لي شاكراً قبولي صداقته بأسلوب مهذب وأضاف عبارة مفادها أنّه معجب بما أكتب ويتمنى أن يحقق حلمه مستقبلاً في كتابة رواية قال عنها إنها ستجسد قصة حبه الخالدة.
إلى هنا كان الأمر يبدو عادياً ومتكرراً لجهة كثرة ما نصادفه نحن الكتّاب في مواقع التواصل الاجتماعي من تفاعل محمود مع الكثير من القرّاء والمهتمين والمتفاعلين مع ما نكتب، لكنّني صدمت بعد مرور يوم واحد فقط على ذلك الطلب بوجود تلك الصورة التي اعتقدتها لممثل وسيم من هوليوود أو موديل لعرض الملابس الرجالية، بين صور ضحايا التفجير الإرهابي الذي وقع في منطقة الكرادة ببغداد، فأصيبت مخيلتي بعطب مؤقت استمر على مدى أيام عدة، إذ لم أتمكن من تخيّل ما حدث في الحقيقة ولزمني الأمر ثلاثة أيام لاستوعبه أو أصدّق أنّه حقيقة فادحة قد تجسدت بقسوة على أرض الواقع.
وبقدر تعلّق الأمر بالكتابة فطالما تخيّلت الشارع الرئيس في منطقة الكرادة، التي غالباً ما أقيم فيها عندما أزور بغداد، مكاناً ميتافيزيقياً لأحداث دامية متوالية، فعندما تحدث الانفجارات هناك غالباً ما تبعثر المكونات المادية من سلع وبضائع وتمزقّ البشر بينما تحتفظ المباني بانتصابتها المعطوبة كما لو كانت تتكئ على بعضها مكابرة، قبل أن يغسل رجال المطافئ سيول الدم ويعود الباعة ليعرضوا بضاعتهم من جديد.
لكن هذه المرّة أطار الانفجار كل شيء، البضائع والبشر والأبنية والأحلام التي ظلت محومة في فضاء الانفجار مثل عصافير خفيّة، لا تستطيع العين المجرّدة رؤيتها، لكنك تشعر بحفيفها ورفيف أجنحتها، تماماً مثل حلم ذلك الصديق الوسيم الذي مازالت صورته تؤرّقني، مثل كابوس أسود يدلق لسانه لي ويسخر مني ومن مخيلتي العاجزة عن اللحاق بابتكارات الواقع المرير، أقصد الواقع الذي يجترح نمطه وقوانينه الباعثة على الجزع.

عرض مقالات: