للمتباكين على تدمير الرموز التاريخية لا بدّ أن نطرح سؤالاً منطقياً هل حاضرنا أفضل من ماضينا؟ وكم استفدنا من التاريخ؟
في الواقع نحن الأمة الوحيدة في العالم التي يُعَدّ ماضيها أفضل من حاضرها، بعد أن تواصلت الأمم الأخرى بتسطير معجزاتها وبَنَت الإنسان وأقامت الحضارات، على الرغم من أنّها لا تملك تاريخاً عميقاً مثلنا. ما الذي استفدنا من التاريخ إذا كان حاضرنا معبأ بالهزائم والتراجع والتردي؟
تقول فنانة التصميم المعماري الراحلة زها حديد “لن نتقدم خطوة واحدة طالما نحن متمسكون بماضينا وتاريخنا وتراثنا إلى هذا الحدّ، تلك الأشياء تشدّنا إلى الخلف دائماً”. وليس بي حاجة للتذكير بقول هيغل الخالد بأنّ “الأمم المتخلفة هي التي تستند إلى تاريخها”. وانطلاقاً من هذه الحقائق كتبت قبل سنة تقريباً في هذا المكان، مقالة تحت عنوان “الأدب في الوجدان والتاريخ في المتاحف” منوهاً فيها بأهمية الأدب، وبالتالي العلوم الإنسانية وقدرة الشعوب على ابتكار مستقبلها وتسطير معجزاتها على طريق التطور الإنساني، والانفصال قليلاً عن مُخدِّر التاريخ.
لقد أنتجت الأمة العربية منتصف القرن الماضي شخصيات فذّة على صعيد السياسة والفنون والأدب والعلوم، على الرغم من اختلاف الكثيرين معها، لكنّنا عندما نقارنها بما يجري اليوم من هزائم وفقدان للبوصلة القومية والتيه الفكري والوجداني الذي تعاني منه الأجيال الجديدة نجد أنّها كانت متقدمة على عصرها ومتناغمة مع مناخها ومستندة إلى حسها الوطني والقومي، تلك الشخصيات التي لم يمنحها أسلافنا من قادة اليسار العربي فسحة للعمل الوطني، وكالوا لها الاتهامات تلو الاتهامات، أصبحنا اليوم ندرك منهجها الوطني والقومي بوضوح أكثر عندما نقارنها بالمناخ السوداوي العام الذي يفرد جناحيه على عالمنا العربي اليوم.
وبقدر تعلّق الأمر بالأدب والثقافة والفكر عموماً فإنّ المهمة التاريخية الملقاة على عاتق المثقفين هي التنبيه لخطورة الركون للتاريخ والتباكي على أطلاله وإقامة المناحات المتواصلة التي لا تنتهي، عن انتهاك حقوقنا القومية وتكالب الأمم الأخرى لهضمها واستلاب ثرواتنا.
إنّ أقصى ما يمكن أن تقدمه الرموز التاريخية للإنسان المعاصر هي متعة تأملها في المتاحف، ناهيك عن قراءة العبر بواسطتها كمنظورات قياسية صالحة لمقارنة واقعنا الحاضر بماضينا.
نعم لقد خاض جلجامش المخاطر والأهوال في رحلته من أجل البحث عن عشبة الخلود حتى أدرك في النهاية أن الخلود الحقيقي للإنسان هو ما يجسده في حاضره من مجد ورقيّ، فماذا فعلنا نحن للإنسان المعاصر؟ بعبارة أخرى ماذا قدمنا للإنسانية التي قدّمت لنا الاختراعات والأفكار والأنظمة المتحضرة والقوانين وأساليب التحضر؟ وما هو حجم إسهاماتنا في الحضارة الإنسانية منذ أفول حضاراتنا عندما سقطت غرناطة واستباح المغول بغداد؟ بعبارة أخرى لا أفهم ما الذي يمكن أن تقدمه منارة الحدباء إذا كان الإنسان العراقي المعاصر مستلباً ومهاناً ومشرّداً ومنتهكة إنسانيته ومستلبة حقوقه؟
إن نظرة واحدة لكمّ الفزع المهول على وجه طفلة مهجّرة من الموصل أو حلب كفيلة بتذكيرنا بحقيقتنا العارية عندما اعتقدنا أن التاريخ يمكن أن يستر عوراتنا ويكون لنا ثوباً مطرّزاً بالمجد والتفوق، في حين لا يعدو، في حقيقته، عن كونه ثوباً للإمبراطور المخدوع الكامن في كل واحد منّا.
يتناسى البعض حقيقة مواقعنا التاريخية الدارسة، كالزقورة والمقابر الملكية وأسوار بابل وآشور بأنّها موجودة قرب مكامن النفط، وأن عيون الشركات الاحتكارية الكبرى تترصد ذلك السائل الأسود ولا تعبأ بتلك الحجارة التي قربه حتى وإن ادعت غير ذلك لتخدعنا.

عرض مقالات: