دعت فرجينيا وولف عام 1919 إلى تأسيس هوية خاصة بالنساء، وتأثرت سيمون دي بوفوار بجان بول سارتر ووجوديته وهي ترى المرأة هوية ثقافية. وأدت كتابات دريدا الفلسفية دورا مهما في بلورة الدعوة إلى قلب المركزية الذكورية لاسيما مفاهيمه عن الكتابة والاختلاف التي تأثرت بها كيت ملليت كثيراً.
وانتهجت كتابات وناقدات غربيات مسارات نسوية شتى، منها أن دونية المرأة بدأت تاريخياً مع عصر الحضارة كإعلان للتناقض بين الجنسين وبشكل لم يعرفه التاريخ من قبل، ومنها أنّ سيادة النساء التامة كانت سمة عصري الوحشية والبربرية، ومنها التركيز على المرأة وعطاءاتها الأدبية كما فعلت الين شوالتر. وشخَّصت هايدي هارتمان تضاد الماركسية بالنسوية مما سمَّته الزواج التعيس بسبب تضادهما في بعض الطروحات بينما آمنت توريل موي بكارل ماركس.
وتبنت الفرنسية ماري وول أفكار الثورة الفرنسية وأفكار الفيلسوف جاك لاكان بعكس هيلين سيسو التي فنّدت طروحات لاكان النفسية لأنها وجدتها تصب في باب الرؤية الذكورية للعالم.. إلى غير ذلك من الرؤى والطروحات النسوية التي فيها حاولت المفكرات والناقدات تفحص وضعيات المرأة الكاتبة وغير الكاتبة في ظل الثقافة السائدة التي هي في جوهرها ثقافة بطريركية دوغماتية، فتأرجحت بين التحدي المنفلت من قبضة الذكورية وبين التجاوز المحتشم تحت جلباب الأبوية .
وعلى الرغم من كل هذا التوجه العالمي نحو تبني النظرية النسوية؛ فإن الحاجة ما زالت ماسة لبناء نظرية إستراتيجية للهوية النسوية تتحدد على وفقها جماليات النسوية وأنساقها الإيديولوجية التي فيها يتمركز وعي المرأة، وبما يمنح النسوية مزيداً من الأمل بالانعتاق من سطوة الأبوية بمعناها التسلطي.
ومن جملة الأسئلة التي ستظل تلاحق النسويات: ما الشوط الذي قطعته نساء العالم وهن يناضلن في سبيل إعلان بنات جنسهن قيما لا حاجات ؟ وكيف يتحقق للنساء رأب الصدع الذي تركته جداتهن في جسد التاريخ البشري ؟ وهل سيكن قادرات ـ بما سيتاح لهن من إمكانات ـ على تغيير خارطة الثوابت والمبدئيات التي بذلت الأبوية في سبيل إرسائها وتوطيد كيانها جهدا كبيرا ؟ وما الذي جعل مرتكزات الأبوية من الثبات الذي لن يفك عراه تفكير نسوي مثابر وحثيث؟ ليغدو من ثم اجتثاث أعماق هذا الثبات الفحولي وزحزحة المتأصل منه أمراً غير وارد إن لم يكن محالا. ولماذا لم تأخذ النسوية العربية اليوم خطا نظريا واضح المعالم؟ وهل يصب التعدد النظري للنسوية الغربية في صالح النسوية العربية ؟ وما الدور الذي أدته الكاتبة العربية على طريق تعزيز الأدب النسوي وترصين قواعده وفرض نظرياته؟ وما موقع النظرية النسوية بين النظريات الأدبية والنقدية الأخرى ؟ ومتى ستجد الجماليات النسوية وجودها في عالمنا العربي ؟ ما الدور الذي قامت به الناقدة العربية إزاء النظريات النسوية ؟ والى أي الحدود انطلقت الأكاديميات النسويات في البرهنة على نجاعة التوجه النسوي؟ وما المحددات التي فرضتها المؤسسة الأبوية العربية على مشروعية الانطلاق للنسوية كنظرية ومنهج ومدرسة ؟ ولماذا ما نزال ندور في حلقة مفرغة ونحن نطرح رؤانا النسوية ؟ لماذا يتم الخلط بين النسوية كاشتغال فني أدبي ذي صلة وثقى ومباشرة بالكتابة الإبداعية وبين النسوية بمفهومها التايبوغرافي والجيوبولوتيكي العام ؟ ولماذا لا نجد بوادر لملامح شيوع النسوية كمنهج عمل وبرنامج مستقبلي للتحرر والتخلص من أسر الانصياع للمنظومة الفحولية ؟
والسؤال الذي أراه أكثر إلحاحاً هل باستطاعة النساء قلب كفة الصراع موازاة لا مغالبة ليكون الضعيف بجانب القوي وليس عليه، مسانداً المغلوب على أساس أنّ الرؤية الواقعية تحتم الاتزان العقلاني في التعامل مع الأشياء وقياسها قياساً دقيقاً بحجومها وأبعادها ومساحاتها، ليكون المتحصل سليماً بالمنظور المنطقي؟
عموماً فإن الإجابة عن هذه التساؤلات ستظل مرجأة حتى استعادة الحياة نصابها الأول الذي فيه تغدو الحياة مسالمة ومتكاتفة يتقاسم فيها كل من المرأة والرجل أدوارهما الحياتية بصورة متوازنة وتشاركية، صانعين حياة متجددة لأجيال قادمة تتعاون لكي تتصالح.
وربما يبقى الأمر كما هو بانتظار ذلك الوقت الذي فيه تعلن الأبوية عن نهاية اعتدادها بنفسها، وقد تداركت أخطاءها وأصلحت حالها؛ وإلا فإن لا مناص للأبوية يوما ما من الندم على حياة ما استغلت من قبل البشر الاستغلال الأمثل بعد أنْ عجزت عن احتواء النسوية، كما أنّ النسوية نفسها ستكون وقتذاك قد فشلت في منازعة الأبوية على هيمنتها وباءت محاولاتها في المشاركة والتعاون هباءً وأسفاً.
ولا خلاف أنّ بعضاً من الدعوات النسوية وجدت لها تطبيقاً على أرض الواقع بشكل فعلي وملموس، ومع ذلك فإن النسوية لم تشهد بعد بزوغ ظواهر واضحة تجعل الكتابات الواقفة في صف المرأة موضع ترحيب وتقدير وبالشكل الذي يجعل النسوية تقهر تابعيتها بنفسها لا أن تسهم هي نفسها في تعزيز تلك التابعية وشرعنتها.
إن انهزام الرؤية الواقعية للنسوية إزاء الرؤى المهينة الفحولية هو الذي يجعل المرأى التطلعي بعيدا أو شبه غائب في رهان إثبات الهوية النسوية.
وبسبب الاستحواذ الأبوي الذي ظل في ما مرَّ وجرى يصف المرأة بـ(الجنس الآخر)، فإن ممكنات إثبات الهوية النسوية قد تبدو على نحو إيجابي ضعيفة، لكنها قد تكون على نحو سلبي عنيفة لأن النسوية قد لا تمارس دورها الطليعي كتبعة من تبعات جور الأبوية على النسوية، ولعلها تتناسى ضغائنها والظلم الذي لحقها من الأبوية، متنكرة لكل ما أصابها من ظلم وحيف وقهر وعدوان وتهميش لتقول كلمتها التي قالتها أسلافها النسويات الرياديات اللواتي صنعن العالم بحبهن وبراءتهن وليس بالقوة والمكر والدهاء.
بهذه الاحتمالية نستشعر مخاطر التشتت في الهوية النسوية عربياً وعالمياً نظرياً وإجرائياً، والنسوية تتوزع بين اتجاهات شتى ينتابها بعض التقوقع وربما الدوران في الحلقة نفسها التي دارت فيها في الماضي طموحات المثقفات الليبراليات وتطلعات الفيلسوفات التنويريات، ليُكتب مجدداً على النسوية التخلف عن ركب الأبوية مستقبلاً.
هذه الأبوية التي ما كان لها أن تصنع ثقافة ذكورية لولا أنها عزمت على ذلك. وأهم ملامح هذا العزم أن جعلت التثقيف موجهاً في خدمتها في مراحل التعليم كلها، مركزةً في كثير من مقررات هذا التعليم الأدبية والعلمية على الأدب الذكوري التراثي منه والمعاصر، وهو ما يجعل الأجيال تنشأ مزودة بذائقة لا تخالف ذائقة المؤسسة العتيدة كونها تطعمت بمعاييرها واحتضنت أفكارها راضخة لسلطانها.
وبذلك الفعل وبغيره وهو كثير، تتمكن الأبوية من تحجيم الهوية النسوية في ميادين المعرفة كلها، مقابل تضخيم الخطاب الذكوري لتجعل منه معياراً للتفوق وسبباً من أسباب النجاح.
ومن هنا يغدو مهماً وضع إستراتيجيات منظمة ومؤسساتية تتبنى توجهات تدعم النسوية باتجاه صنع فضاءات فكرية فيها المرأة مفكرة وفيلسوفة بمعطيات قيمية ذات مقاصد جمالية ومبتغيات ثقافية لتكون الحصيلة التي بها تتباهى الإنسانية العابرة وهي تستعيد ألق الإنسانية الغابرة.
ولا خلاف أنّ للنسوية هويتها التي ينبغي أن تفرض نفسه على المقررات الدراسية لمراحل التعليم كافة، كأحد السبل التي تضع النسوية على طريق توكيد وجودها بذائقة جمالية جديدة ذات معيارية لا تهادن أو تتحيز ولا تصادر أو تهمش.

عرض مقالات: