منذ فترة لا يستهان بها،أولت الرواية العالمية والعربية، أهمية إستثنائية، لإعادة انتاج التاريخ روائيا،ومشروطية الاستعادة، هي اقتطاف لحظات التأزم في سيرورة التاريخ، والفعل الروائي هنا لا تطوقه الوثيقة التاريخية، فهو يشتغل على تفكيكها وانتخاب ما يلائمه في التصنيع الروائي

فالتصنيع الروائي للتاريخ تفلتره ُ/ ترّحلهُ المخيلة من صرامة الوثيقة التي لا تخلو بدورها من تلفيقات التحيز. إلى قوس التفكرّ بالنص الموّثق والإنزياح الجميل عنه.وهكذا تغترف هذه الروايات من التاريخ، وترتحل عنه في الوقت نفسه،فالروائي يقدم كشوفاته الفنية للحظة تاريخية، ولا يحق لنا أن نحاكم نصه الأدبي، إلاّ في حالة نادرة. ماعملته الروائية رغد السّهيل، هو أنها أشتغلت على شخصية نسوية خلافية، وفي الوقت نفسه اشتغلت الروائية السّهيل على لحظة تقاطعت خيوطها المحلية والعالمية، لكن فاعلية السرد لم تجعل السماء ملبدة بالغيوم دائما، فهناك كرنفالات الطبيعة المزدهرة بالورود والأشجار(كان صباحا منعشا أنبسطت فيه الشمس وسط السماء وزقزقت العصافير والبلابل وتفتحت الورود مزدهية بالربيع/ 101). (تجمهرت نسوة كرمنشاه حولها حيث الطبيعة السخية بالجبال الشاهقة التي تنساب منها شلالات المياه، وتكثر فيها الورود المتنوعة الأشكال والألوان، ويطفو بعضها فوق سطح البحيرات في منظر خلاب../203) وغير ذلك من سرديات الطبيعة منثورة في فضاء الرواية.كل ذلك على المستوى العام وهناك آصرة حميمة بين فاطمة القزوينية وشجرة التوت، خصوصية التراسل المرآوي بينها والشجرة. وتعمّد السرد تنويعات في الإحالة التكرارية للشجرة :

*ترصدُها والدتُها معتكفة ً وصامتة ً وصائمة ً طوال الوقت عند شجرة التوت، فتبوح البنت  بحبها لهذه الشجرة لميزة تتفرد بها(تزهر آخر الأشجار،رغم أن ثمرها يسبق الجميع/ 251) وحين تسألها أمها سؤالا أفقيا: هل أنت بأنتظار ثمرها؟ فيكون تلميح البنت عموديا عميقا، وبشهادة أمها(فلمحت بأنها تنتظر أمرا آخر)

*مع الصفحة الأولى، من(منزل المحاق) نقرأ طفلة ً تغمض ُ عينيها لتصطاد نجمة ً، فتصطدم بجذع توتة ٍ!!(أسدلت جفنيها وأغمضت عينيها، ثم مدت يديها: سأصطاد نجمة ...

نجمة تبرق وتلمع سأضي مثلها..

ودارت في حديقة البيت الكبير في قزوين،فأصطدمت بجذع شجرة التوت العتيقة، سقطت الصغيرة، وبكت من دون دموع..

أعترضت شجرة التوت: لماذا تضربين جذعي؟

لم يسمعها أحد../11)

في القراءة الأولى يبدو ما بين القوسين نصا بريئا يوائم طفلة ً، لكن في القراءة الثانية للرواية

ستتوفر للقارىء مفلات لتفكيك المقبوس، وبدورها قراءتي تترك للقارىء حرية أختيار مفلاته

*إذا كانت في شجرة التوت،أكتفت بسؤال ٍ وجههته إلى قمر الزمان، فأن الشجرة ستكون مساهمة ً سرديا في ص163، وستخبرنا بما جرى وما لحقها من أذى كلما غضب أحدهم

منها سنعرف أن قمر الزمان سجنتها الحكومة ُ في بيت أبي الثناء الآلوسي بسبب دعوتها لذلك الشيرازي .

*ثم في ص240 ستعاود شجرة التوت الكلام الذي لا يسمعه سواها وهي تخاطب عبد الوهاب

*حين يعدو على فرسه عبد الوهاب شقيق بطلة الرواية، ويتعقبه السائس، ويقذف عبد الوهاب حجرا تجاه خرائب قلعة آلموت، ويعّقب : كان حصنا لجمع من المارقين الخارجين عن الدين

ثم يحدث عبد الوهاب نفسه(لكن ما دهاك ِ أنت ِ يا قمر وأنت ِ العالمة الذكية /156) وما أن يخاطب السائس: لنعد يا بهرام.. حتى يخبرنا بهرام( كانت تلك شرارة الغضب الأولى التي لم تنجُ منها حتى شجرة التوت../156)

*هل صارت شجرة التوت حيزها الأوحد؟، لنصغي لزوجها قليلا..(..تهجرني أياماً وتختلي في بيت أبيها تحت شجرة التوت،وتهذي بالمخلص الذي سيحطم الشرنقة ويخرج منها كفراشة/157)

*وفي نهاية تاريخ الأستبداد، المبتدىء بظهور المخلّص(ستكف الدودة عن صناعة الشرنقة لها/197) هنا يحضر الكلي بالجزئي المقترن به،أعني لا يرد ذكر شجرة التوت،بل الدودة

(*)

رواية عن إمرأة، تناصرها / تشافهها حكائيا نسوة ٌ بالتواتر، وهكذا يكون النسيج الحكائي / التاريخي،مؤنثا صريحا بإطلاق، تغيّب المذّكر المتشافه، عنها/ وحضّر عوضا عنه، المذكر المطلق المستبد في نص حياتها، والمتحصن بأرضنة المطلق الإلهي، وبعد قرابة قرن سينصفها،المذّكر الباحث، فقد خفتت نار الأنثى العارفة، فأصبحت الكتابة لا مغامرة فيها..

(*)

يتأفق سؤال قراءتي من منصة رواية (منازل ح17) للروائية رغد السّهيل، وليس من وثاثق التاريخ، لنصغي لمكابدتها مع بعلها(كان أبن عمي الشيخ محمد زوجا لم أختره، ولو أنني خُيرت ما أخترته،ولا رضيته شريكا في الدنيا ولا في الآخرة.. جلب لي المواجع، وضمر لي العداء..هل تقارن شمس الثريا بنجم ضؤوه خافت../82)

(*)

في كل المجالات، يفضل المذّكر مقارعة أنداده، وحين تتأنث الندية، يطالب بمحقها،(إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فأذبحوها)

(*)

هل حياة الإنسان مرتهنة بما يسمى من قبل أهله؟ أو بما يطلق عليه من أسماء من قبل الآخرين ؟ إذا كانت هي (قمر خانم) أو أعلى مرتبة (قمر بانو) إذا هي مشمولة بذلك أعني (إن القمر يتنقل في منازل وكذلك مخلوقاته تتحول من حال لحال../267- منازل ح17)،واشتغلت الروائية رغد السهيل، ضمن السياق القمري روايتها، وشفرة العنونة، تفككها الرواية،ومن يحمل اسما(من الطبيعي أن يلعب دور تسميته/ 461/ الغصن الذهبي/ جيمس جورج فرايزر/ ترجمة نايف الخوص/ دار الفرقد/ ط1/ 2014)

 إذن منازل الرواية خاصة بالسيدة فاطمة القزويني، والتي تحمل الرقم السابع عشر، من (حروف حي) والموضوعة تناولها الدكتور علي الوردي (هكذا قتلو قرة العين) كما تناول الحركة البابية/ البهائية الباحث رشيد الخيون وغيرهما من الباحثين..

(*)

حين نقرأ الرواية من تبئير آخر، فهي بالتجاور رواية حاضرنا  العراقي المرتهن، الذي تفقست فيه، بعد 2003 كل الخلايا الطائفية النائمة، وتغلبت التناقضات الثانوية على التناقض الرئيس، ودحَس َ كل المرتجفين من الجوار وغير الجوار، ملوثاتهم البيئية في هواء العراق العليل

(*)

يتشظى السارد العليم،إلى حزمات سردية، حيث يتسيد الجزئي على الكلي سرديا، وكمطبوع نكون أمام السرد بالتواتر،كما تستقبلنا الصفحة السابعة غير المرقمة .

(*)

يشتغل السرد أحياناً على نفي النفي، والذي أجترحتُ له في مقالاتي النقدية ( تكذيب السرد)

في الصفحات التالية: 140/151/191/ 213- 215

(*)

هل نحن أزاء تناقض جندري؟ هي تدافع عن المرأة، لكنها لاتنتظر مخلّصة للعالم بل مخلّص ذكوري(هلموا نجتمع تحت راية المخلص../203)

*في بدايات تفتحاتها المعرفية،انتجت سؤال الذات المستقوية بذاتها(لماذا يعتمد البشر على الآخرين في خلاصهم؟ ألا يمكن أن يخلصوا أنفسهم بأنفسهم؟/198) وهنا قراءة أخرى لتعالق فكرها، يقدمها لنا من داخل الرواية ،أبو الثناء الآلوسي (أظنها هامت بالمخلص كما يهيم الصوفية بالله،فشط بها الحلم، وربما لو لم يدع رجل أنه المخلص لاختلقته هي/190) ضمن هذا السياق فقط، نرى أن قرة العين هي القوة الداعمة لمن سيكون الأول الأول أما هي فهي الأول الثاني، وضمن هذا السياق أيضا : هل في ذلك تعويضا لأنوثة لم تحصل على ندٍ تكتمل به ؟

*ضمن السياق ذاته، يرى والدها(كانت تنتظر الخلاص بشغف فأطاح طول الانتظار برشدها وأعمى بصيرتها، فكان منها ما كان../348- 249).

(*)

هي تمردت على سيادة المؤتلف النسائي المطلق، من خلال إشهار صوتها الوعظي، في مرحلة صوت المرأة من العورات فقد كانت (تواظب على الخطبة فوق المنبر../132) ومن هذا الجانب، ترى قراءتي أن الصوت في(منازل ح17) يمكن اعتباره شخصية روائية رئيسة

فهي حتى حين تغادر الأمكنة يتأرج عطرها وصوتها( هنا                /196) وصوتها مرآة روحها، نقلا عن زعفران (وفي يوم نادت عليّ وبنبرة حزينة قالت لي : لم يعد يكلمني أحد سواك يا زعفران/227) هنا يكابد الصوت إنتباذا جمعيا من قبل الغير، فقد تغلبت سيادة الذكورة على تفوق الأنوثة المعرفي..وهي تقتحم المعارك الفكرية(وتلبي حضور المجالس لمن يطلبها،وتدافع عن المخلص الذي صدقته، حتى طالب زوجها بحبسها لدى الحاكم../226)

*في البيت يتعرض الصوت إلى قمع أبوي(كنا نسمع صوتها وهي ترتل وتتهجد،ليصيح أبوها: أطلبوا منها أن تخرس، لا أريد سماع صوتها../ 227)

هنا يتقهقر الصوت، ويتجفف كذكرى (لقد أنقطع الكلام ولم يعد يكلمها أحد../229) يتحول الصوت من الديالوج المنبري، إلى المنولوج المتخافت، الذي يستعيد محاورة ً آفلة ً مع شقيقها

عبد الوهاب وهو يدربها على الفروسية، فتجرحها لطائف الذكرى:(سقطت دمعة باردة يتيمة مستوحشة وحيدة على خدها، تغير عبد الوهاب،هو قريب بعيد ينظر لها بأشمئزاز وأمتهان)

ثم يعاود الصوت منبريته، بعد التسلل من البيت،بتدبير من جماعتها، وامتطت فرسا عند الفجر، لتجتمع في طهران،في حديقة الجنة، لتخليص المخلّص من سجنه (قبل أن يقضي عليه ناصر الدين شاه/ 232) وبعد أصطدامات بين جماعتها والحكومة، يتم سجنها في بيت مدير الشرطة

ويعود الصوت إلى تخافته/ 235

*رغد السهيل / منازل ح17/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 2019

عرض مقالات: