كتبت هنا منذ أكثر من سنة عن كيفية إدارة الثقافة في البلدان المتحضرة وآلية دعم النشاطات الثقافية والفنية بعيدا عن الدولة وجهازها الإداري المترهل. وبالنظر للمنافسة التي نشهدها في العراق من أجل الهيمنة على وزارة الثقافة، واختلاط الفهم لدى الكثير من الأصدقاء المثقفين ، أعيد ما قلته بطريقة أخرى، في محاولة لتقريب المعنى، لا سيّما في ما يتعلق بحقيقة وزارة الثقافة الحالية ككيان مترهل وهجين فاقد للهوية والكينونة، فلا هو منتم إلى الجهاز الحكومي ولا هو منتم إلى الهيكل الثقافي في البلد.

وبقدر تعلّق الأمر بالعراق، فإن وزارة الثقافة منذ تأسيسها على يد الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة على حكم العراق، كانت أداة لتطويع الثقافة وتوظيفها في ماكنة الدعاية الخاصة بالأنظمة ومسحوقا ناعما وملونا لتجميل وجوه تلك الأنظمة القبيحة وإسباغ طابع التحضر عليها.

في أغلب بلدان العالم لا توجد وزارة للثقافة بالمعنى الذي نعرفه في عالمنا العربي، ولا دخل للجهاز الحكومي في الثقافة وآليتها وأنماطها، بينما تحولت وزارة الثقافة في العراق إلى تكية للمتعطلين والدخلاء على الجسد الثقافي، حتى بلغ عدد موظفيها أكثر من خمسة آلاف موظف أغلبهم لا علاقة لهم بالثقافة، لا من قريب ولا من بعيد، بل جلّهم من منتسبي بعض الأحزاب المتنفذة التي تسعى لمكافأة عناصرها بالوظائف الوهمية على حساب الجهاز الإداري للدولة الذي ارتفع من 750 ألف موظف قبل العام 2003 إلى أكثر من أربعة ملايين بعده، يقابلهم أكثر من أربعة ملايين متقاعد.

وفي المحصلة فإن إلغاء وزارة الثقافة ودوائرها الفاشلة التي لم تستطع تقديم أيّ شيء يذكر على مدى الاربع عشرة سنة الماضية، هو توفير مبالغ هائلة للدولة كان الأحرى بها أن تُستغل في دعم الأنشطة الثقافية المختلفة التي تعاني من شحة الموارد المالية وانعدام الدعم.

وما زلت أطالب بتشكيل مجلس أعلى للثقافة يتكون من مجموعة من المثقفين الذين يتمتعون بقدرة إدارية جيّدة، على أن يصاحبه ضغط جدّي من المثقفين ومنظماتهم ونقاباتهم على البرلمان من أجل تشريع قانون ينظم ميزانية الدولة وتخصيص جزء منها للثقافة أسوة بالبلدان المتحضرة، على أن يستعين أعضاء المجلس الأعلى للثقافة بخبراء ومدققين ومحاسبين متخصصين لإدارة تلك الأموال بطريقة قانونية ومنصفة، لتوزع على صناديق دعم الأفلام والمسرحيات والمعارض التشكيلية ونشر الكتب وتنظيم المهرجانات وإصدار المجلات والصحف الثقافية، فضلا عن تأسيس صندوق خاص بالضمان الاجتماعي للمثقفين ورعايتهم وحمايتهم بطريقة تحفظ لهم كرامتهم وتغنيهم عن السؤال.

وبالنظر للتدخل السلبي في شؤون الثقافة والتاريخ التهميشي الطويل للدولة في التدخل بهذا القطاع الحيوي، لم يفرز الوسط الثقافي عندنا للأسف ملاكات ثقافية قادرة على إدارة مثل تلك المنظومة الكبيرة التي تتطلب بالتأكيد الكثير من القدرات والنزاهة والحيادية في مجال الحكم على الأعمال المتقدمة لطلب الدعم من صناديق المجلس الأعلى المقترح، فإنّني أقترح ترشيح من يرغب في التصدي لهذا العمل من المثقفين إلى دورات تطويرية وزيادة خبرات مدعومة من مفوضية الثقافة في الاتحاد الأوروبي ومنظمة اليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية وشبه الحكومية، لتأهيلهم والاطلاع على تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال.

لكن تبقى الخطوة الأولى والأهم في هذا المجال هي الاقتناع، أولا وقبل كل شيء،  بعدم جدوى عمل وزارة الثقافة والضغط من أجل إلغائها وتشريع قانون تخصيص 1في المائة من الميزانية العامّة لتمويل الثقافة عن طريق لجنة الثقافة

عرض مقالات: