يسمح الاعتدال الربيعي لغزالة الطيب بأن تخرج من خدرها، بعد أن يسري الدفء في الجو، منتقلةً من غمرة الاطمئنان في بيتها المستلقي فوق صخور الجبال أو بين فجوات التلال إلى صميم الخطر، فيدرك الصياد وجودها بالمشاهدة في الأرض المكشوفة التي تجعلها هدفاً للصياد الماهر، بعد أن كانت في مكان متمنع حصين، فيراها المختبئ اللا مرئي قادمة من مكان ما، يراها بوضوح تام في ضوء النهار حيث تفيض الشمس في أرجاء السماء، ووسط بهجة ضياء الشمس تبدو لصيادها غاية في الرشاقة فيغرم بمرونة جسدها وحركته اليسيرة، غير أن الصياد لا يمكنه اصطيادها صراحة من دون مكيدة أو مطاردة،إنها لا تتخلى عن غريزة الحفاظ على الذات،ولكن ليس لديها وجه آخر للخيار، إنها تنجذب لمساحة الرؤية لتضع وليدها (الخشف) بين طيات (طعوس) الرمال مستجيبةً بذلك لطبيعتها كائناً يتوق إلى استمرار نوعه بالولادة وهو الوجه المؤثر في حياة المملكة الحيوانية بأسرها ...تعبر برك الماء الضحلة لتقف في لحظة حاسمة من الزمن أمام المختبئ اللا مرئي في كل مرة والذي يستمد وجوده كصياد من الخبرة المستمرة في الصيد، إننا نتلقى الماضي من الذكرى الكامنة في مشاهد صيد الغزلان فنتبين من خلالها الحدود الصريحة للأشياء وقتذاك، وعبر استحضار بصري لمجريات صيد الغزلان في الماضي فنستعيد الكثير من مظاهر الحياة آنئذ حينما نتخيل صياداً قديماً يرى غزالته الأثيرة رأي العين وقد استقامت على خيط صبره الرفيع مستثمراُ حرفته، في تأسيس نقطة البداية والتهيؤ لفعل محتمل، إن الرزق في نظره هو طرق الأبواب المجهولة والوقوف طويلاً أمام المعجزات من دون أن يغفل الصياد الالتزام بقوانين اعتبارات الصيد التي تتفق طرقها مع سياقات البيئة والاحتفاظ بضمير حي بعدم صيدها على موارد الماء ...كأننا نرى مع الصياد القديم طراوة النظرة الأولى لغزالة الطيب محتفظة بإيقاع زمنها المتوافق مع حركة الأشياء من حولها وأنفاس الريح الرخية، ولكن ثمة برهة حاسمة ينبغي أن يكون فيها لكل صياد مهارته، يتحسب لكي لا يجري الوقت أو يحصل شيء ما يسرق وقته ولو في جزء من أجزاء الثانية، فهو لا ينيط مصائده إلى كف القدر أو يعلق آماله بأيدي الصدفة.
إن المهارة تتجلى في التقاط لحظة الصائد النادرة لطريد ته وهي جزء من ذكريات الهواية المتصلة برشاقة حركة غزالة الطيب وعدوها السريع الذي يبدو وكأنه يبطئ حركة الزمن، أن الترقب المنتج للصياد هو شكل من أشكال الكسب والثروة ومع قدوم الليل يجهز كل ما يتصل بسلاحه الناري حيث تحدث المطاردة متخيلاً شكلها الذي يثير فيه حاسة امتلاكها كطريدة وكأنه يرى الغزالة اول مرة بهذه الصورة الفاتنة… بعدها يقوم بوضع خطة مطاردتها، إنه ينطلق بعد ترقب مضن وطويل خلف أشباحها الظلية الراكضة وسط حزمة أضواء مصابيح سيارته (اللاندروفر) أو (الجيب) ذات الغطاء القابل للطي أو تحت ضوء القمر فيوقع فينا الوهم عبر تطورات المفهوم الحركي للغضب الذي ينتاب الغزالة ويجعله هو ايضاً وكأنه يقود سيارته إلى حافة الفراغ الصحراوي...تتوقف غزالة الطيب قليلاً متلفتةً إلى الوراء ثم تسرع في عدوها طلباً للنجاة، تعبر الفضاءات الشاسعة وتجتاز الأخطار فيتألق سحرها الجسدي عبر حزمة الضوء مرة أخرى كلما أوغلت بالعدو السريع وفقدت رشدها لتغدو كريشة متقلبة الاتجاهات لتجنب خطر المواجهة المباشرة مع مطاردها ..تنهض من كبوتها كل مرة في قوة وعزم لتبدو وكأنها طائر جسماني رشيق، إن ضوء مصباح السيارة لا يكف عن كشف مفاتن جسدها في لحظات مواجهة الموت والخطر.. تغيب عن مجال نظر الصياد ثم تظهر من جديد لتصبح شديدة الإبهام في تصرفاتها بعد أن يسد عليها الصياد طرق الفرار والنجاة لتقع في مجال آلة القتل فتغدو في حوزة رغبة الصياد. تحس بالضعف تلتفت لتحدق النظر إليه ويزداد إحساسها بالضعف أكثر فأكثر..وعندئذ يحدث تغيير غامض لن يستطيع فهمه الصياد أول مرة كلما ركضت في العراء قدمت إغراءات جديدة للصياد في الاندفاع نحوها وهي توغل في الابتعاد عنه..تحس بالضعف وهي تلتفت لتحدق النظر إليه ويزداد إحساسها بالضعف أكثراً فأكثر.. تطلق نداءات استغاثة وتنطلق بكل قواها لتصل إلى مكان أكثر أمناً عسى أن يخلصها من قبضة الموت محاولة عبثاً أن تخرج من نطاق نار بندقيته فتتنامى في نفس الصياد رغبة امتلاك طريدته ويصبح من الضروري أن ينظر إليها نظرة تمني كلما وقفت وتلفتت نحوه حيث يتبادلان النظر بعض الوقت ثم تنطلق بكامل إمكاناتها الجسدية، فقد أصبحت نيته واضحة لديها فتثب وثبات متتالية محاولة تجاوز محيط الدائرة الضوئية لمصابيح السيارة وفي كل مرة تلقي عبر نظراتها إليه صيحات الاستغاثة في صمت الأرض الموحشة،ومع أن جسدها قد خلا من كل قدرة على المقاومة ولم تعد تأمن على سلامتها لكنها ما برحت تقف وتتلفت وأقدامها متوثبة إلى الأمام، وفي كل لحظة كانت المسافة تتقلص بينهما وتضيق بمقدار معين، وعلى الرغم من ذلك فإنها ظلت مصممة على الإفلات منه ومتعلقة بأمل النجاة حتى بعد قطع طريق التقهقر عليها فيضاعف من سرعة سيارته نحوها ضاغطاً بقوة على دواسة الوقود، وفي أثناء ذلك يفكر الصياد في البندقية لأن الموقف لا يسمح بالمخاطرة وإطلاق رصاصة تخطيء هدفها، وعندما تصبح على بعد وثبة واحدة تسري في جسدها الملتوي رعشة من أثر الخوف الناشئ عن المطاردة ولم ير الصياد الغزالة بهذه الصورة الفاتنة حينما أصبحت محفوفة بالمخاطر، وخلال إحدى وثباتها اليائسة يبسط يده على زناد البندقية ويضغط زر الإطلاق.... فتخر صريعةً ويفقد الجمال كل أثر له في جسدها.

عرض مقالات: