(أنثى غجرية) رواية كتبها د. رسول محمد رسول أستاذ الفلسفة الذي يطالعنا بكتاباته في هذا المجال بين الفينة والفينة، والرواية صادرة عن دار (مداد) في دبي، فنحن أمام مؤلف صفته الثقافية فلسفية، وبطلة الرواية أنثى عراقية (بصراوية) مسيحية، مشلولة يدها اليمنى ولادياً، وزمن الأحداث في ثمانينات القرن العشرين، وما بعد الاحتلال الامريكي للعراق، وقد جاء عنوان الرواية (أنثى عجرية) مُنكّراً تنكيراً مُقْنعاً تدعمه الرواية أحداثاً وشخصياتٍ وأزمنةً وأمكنةً، متعددة وغير مقصورة على حدث واحدٍ، لماذا ولدتْ مشلولة اليمين؟ لماذا هُجِرّتْ من سكنها في بغداد، والذين هجروها يخفون هوياتهم؟ والبطلة (أسماء) جاء اسمها جمعاً منكراً، لتشمل كل الإناث، وقد أشار الى هذه الدلالة السيمائية الناقد اسماعيل ابراهيم عبد في احدى مقالاته، أما الأمكنة فهي الأخرى متشظية ما بين البصرة وبغداد وعمان ودمشق والمغرب ودبي، وبلدان آسيوية أخرى وباريس، ولذلك فالبطلة غجرية بترحالها لأماكن متعددة، وهذا هو جوهر المعنى الذي قصده المؤلف، وأضاء بؤرته على لسان البطلة (أسماء) التي ترفض ما استقر في الأذهان من صفة الغجرية التي تبيع جسدها، فأسماء غجرية لكثرة ترحالها مرغمة للحفاظ على وجودها الانساني، وامتلاكها لجسدها الذي تحافظ عليه من الدنس فهو رمز كرامتها وأنوثتها، لذلك رفضت بقوة تضحية (جميلة)، صديقتها اليهودية، بأن تنام- جميلة- ليلة مع المهرب حتى يهرب (أسماء) الى فرنسا، فهي أنثى تُحقِق انسانيتها بفعلها وابداعها وثقافتها التي جعلتها محط أنظار وسائل الاعلام.
والمؤلف قد بلغ مدىً بعيداً في النجاح في رسم الشخصية الأنثوية لا من وجهة نظر ذكورية بل من وجهة نظر أنثوية، فأثّث لشخصياته الأنثوية كل ما يعبر عن انوثتها، في ملابسها، في طريقة كلامها، في وضع عطرها (زبائن المقهى يمرون من حولي منتشين بعطري... إنهم يمنحون أنوثتي قدرَها...)، في فَهم (منال المغربية لممارسة الحب بين الزوجين، ولو افترضنا – مِن باب الطرافة- أن نعطي الرواية لقراء نقاد، وأخفينا اسم المؤلف فأن اكثرهم سينسب الرواية لمؤلفة انثى، وهذا يدل على تمكن المؤلف من الغوص في أعماق شخصياته ورسمها بما يلائم مستواها جنساً وعمراً وثقافة وانتماءً اجتماعياً من دون أن يفرض عليها المؤلف من عندياته هو.
أما مضمون الرواية، فقد جاء انسانياً لإدانة التعصب، فالبطلة مسيحية، بعد موت أمها، وقامت بتربيتها البصراوية الأصيلة (طاهرة)، وحينما استولى من اتخذوا من الدين لباساً طائفياً على سكن (أسماء) في البتاويين، فإنها لجأت الى بيت صديقتها الشيعية في الكاظمية، فرحبت بها، وعاملتها كواحدة من أفراد الأسرة، و (جميلة) يهودية مغربية، رفضت أسرتها الهجرة الى اسرائيل، معتزة ببلادها (المغرب)، وقد كانت (جميلة) مثالاً للإنسان الحقيقي بغض النظر عن دينه، وبهذا فإن المؤلف قد أوصل رسالة مفادها ان الانسانية هي الاطار الاكبر والأهم الذي يضمنا جميعاً مهما اختلفنا في الأديان والألوان والطوائف واللسان.
لغة الرواية جاءت معبرة عن المعنى المقصود، فصيحةً، ومعاصرة، مفهومة ونادراً ما تلجأ الى العامية، خصوصاً على لسان (منال) المغربية عند انفعالها، وقد تأتي العبارة شعريةً، في مواضع الرقة، بينما تطغى لغة الكتاب المقدس – الانجيل- على لسان (اسماء) حين تناجي ربها أو موتاها من الامهات: (... يا واهبات العطايا الكرام، ذوات الايادي البيضاء التي تدر حناناً)، كما جاءت بعض العبارات باللغة الفرنسية، ويا حبذا لو جاءَت مصحوبة بترجمتها الى العربية.
بقي أن أشير الى أن المؤلف صاغ روايته على لسان انثى، وقد وفق أيما توفيق كما ذكرنا، ويبدو لي أنه أراد الإشارة الى مقولة (موت المؤلف) لرولان بارت، فخلَقَ شخصية الروائي الكويتي الذي غالباً ما يظهر في نهايات الفصول الروائية متسائلاً وموجهاً كلامه لبطلة الرواية : اين وصلت في كتابة روايتها؟ فيأتيه الجواب موارباً أحياناً وصريحاً في آخر الأمر: (سأقول للقارئ ان الروائي مات) و(ان اسماء يوسف اصبحت روايتَها)، لذلك تقود المؤلفَ مخيلتُه في نهاية الرواية الى حوار بين البطلة والراوي :
(أيها الراوي:

توقف عن الكلام، قل للروائيين أن يرحلوا عني

قل لهم، وقبل إشهار موتهم أن يبحثوا عن حرفة أخُرى)، إنّ المؤلف قد نجح فنياً بالانتصار لرأيه المؤيد لِـ (موت المؤلف)، هذه المقولة التي لَما يزل فيها خلاف بين المثقفين، فمنهم من يرى أن المؤلف لا يموت وهو خلف كل عمل، ففي هذه الرواية يطل المؤلف د. رسول حاملاً راية اختصاصه في الفلسفة، ولكنّ اطلالته فنية غير مباشرة كقول البطلة: (ان وجود ما أعيش، ما عشتُ، ما سأعيش كل هذا سوف يجدد ذلك) وهي فلسفة في الحياة، فلسفة المؤلف، وضعها على لسان البطلة، موضحاً: (ما أقصده يمس الجانب الوجودي)، جاء هذا التعبير ليفرق بين الغجرية جسداً وبين الغجرية وطناً، أليست هذه مناقشة (القدر)، على لسان البطلة وفي موضوعات علم الكلام والفلسفة التي هي اختصاص المؤلف، كل ما في الأمر أنه وضعها على لسان بطلة روايته، فجاءت موفقة فنياً. وتبقى مقولة (موت المؤلف) قابلة للأخذ والرد.

عرض مقالات: