ثلاث مفاهيم كبيرة نتداولها يوميًا في شتى المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، فنخلط بينها وبين مفاهيم القومية والطائفية والمناطقية، دون تمييز حقل اشتغال كل مفهوم منها، مما يعني أن أي توصيف لأي مفهوم هو خاص به ولا ينطبق على المفاهيم الأخر، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع القصد  واضطراب المعنى إن نحن خلطنا بين الشعب والناس والجماهير.. خاصة في مجال الثقافة الماركسية، التي تعني الدقة في توصيفاتها للحال المعنية.

الشعب هو كل من يعيش في بلد له هويته وحدوده ولغاته وقومياته وأديانه، فنقول الشعب العراقي، والشعب الهندي، والشعب المصري... ، فالمسند إليه يحدد هوية المسند أي الشعب، ولذلك فالشعب هو الكتلة الاجتماعية المختلفة التي تعيّنها الجغرافيا والتاريخ المشترك لها. دون أن يكون ذلك التعيين امتيازًا عنصريًا أو قوميًا لفئة من الشعب عن بقية فئات الشعب الأخر.

فالشعب العراقي هو المجموعة البشرية التي تسكن العراق كله، مهما اختلفت قومياتها وأديانها وجغرافيتها. فالشعب العراقي مؤلف من العرب والكرد والتركمان وقوميات أخر. وهذه التوصيفة عامة لكل الشعوب المتعددة الهويات.

أما الناس، فهم الكتلة البشرية التي تتجمع حول ظاهرة آنية تشكلت بفعل عوامل معينة، لعلاقتها المؤقته بهذه الظاهرة، فإذا كان ثمة بضاعة جديدة في السوق ،نجد مجموعات متنوعة من الناس تتجمع لشرائها، أو للتفرج عليها، أو للمشاركة الآنية في ما يحدث لها، ثم تنفض هذه التجمعات من الناس، بعد الإنتهاء من الحدث، وغالبًا ما تكون هذه التجمعات آنية ومؤقته تتطلبها طبيعة الظاهرة الحادثة، وتكون على اعداد مختلفة تبعًا لطبيعة الحدث. فأية معركة يتجمع حولها ناس ليروا ما يحدث، نسميهم مجموعة من الناس، واية ظاهرة بيئية مفاجئة تجد مجموعة من الناس تتجمع حولها أو تتفرق عنها مبتعدة عن مخاطرها. فالناس لا هوية لهم عندما يتجمعون.

أما الجمهور، فهو الأكثر تركيزًا في النوعية، فهم المجموعات البشرية التي ترتبط بأيديولوجيا ما، يفتان يطبع تجمعها بطابع معين. ويحددها الزمان والمكان، لتحقيق هدف ما تصبو إليه. فالمتظاهرون في الساحات والمعامل والشوارع والذين يسيرون جماعات توحدهم اللافتة السياسية، هؤلاء هم الجمهور، الذي يعني النوعية الايديولوجية التي لها هدف معين فاجتمعت لتحقيقه. ونجد الارتباط بين القضايا والجمهور، يشكل ظاهرة سياسية، لأنه معني بهدف تنشد الجماهير تحقيقه، وغالبًا ما يكون للجمهور خطابًا سياسيًا محددًا، لا نجده عند الناس ولا عند الشعب، إلا متى ما تحول وعي الشعب ووعي الناس إلى الوعي النخبوي المصاحب لهدف سياسي ما. ولذلك بإمكان الشعب والناس أن يتحولا إلى جماهير، عندما يتوحد خطابها، وليس بامكان الجمهور أن يتحول إلى ناس تتجمع لغرض شراء او التفرج، او التنزه في الأعياد والمناسبات. فعندما نشهد مجموعة قومية ما تتظاهر من أجل مطلب ما يخص قوميتها، لا نسمي هؤلاء جماهير بالمعنى الدقيق، بل جماعةخاصة بالقومية المعنية، وهم أيضًا نخبة، لكنها جذريًا تنتمي للشعب وليس للجمهور الذي نعنيه.

يفرز الوعي الطبقي لهذه التشكيلات الاجتماعية تصنيفًا دقيقًا، وهو امكانية ان يكون الناس والشعب جمهورًا نوعيًا، في وجدان الفئات الثلاث، الشعار الذي يشترك الجميع في تبنيه، ولو على درجات متباينة، فالفكر المشترك هو الذي يذوّب الحدود بين تنوع الفئات الاجتماعية، وكلما كانت الأهداف عامة، وشاملة وتخص فئات واسعة من الشعب، بينها متلاشية أو مرئية بحدود معينة. فظاهرة الفساد المستشري في بنية الدولة بامكانه ان يوحد الفئات الاجتماعية تحت لافتة معينة هي “مكافحة الفساد: لأن الفساد لا يخص فئة دون أخرى خاصة وان المتضرر منه هو عامة الشعب وليس مجموعة من الناس، لذلك سيتحول الشعب كله إلى جماهير بلافتة وشعار محدد يمكنه أن يغير السياق الذي بنى الفساد عليه تكوينه.

المهمة ليست سهلة خاصة في مجتمع عاش فترات طويلة على ترسيخ التفرقة والطائفية والمناطقية، والقومية الضيقة، مصحوبة بحروب عبثية، وأحيانا يصل التمييز إلى حقول اللسان والكلام واللغة، لذلك على من يتوجه بخطابه إلى عامة الشعب أن لا يكون ذاتيًا، في شعاراته، وأن لايكون مناطقيًا ولا قوميًا ضيق الأفق، ولاطائفيًا، ولا مناطقيًا، عندئذ تجد أن التقسيمات التي أشرنا إليها مذابة في ما يوحد الجميع في غرض إنساني شامل، ومن هنا، نجد الفهم الماركسي لمكونات أي شعب هو الطريقة الصائبة لاستخلاص الخطاب الأكثر نجاعة في السياسة الاجتماعية. ومع ذلك فثمة مخاطر جمة تكمن في عدم فهمنا للكيفية التي نصوغ بها الخطاب، فليس كل خطاب يكون صالحًا لكل المراحل، ولا يكون صالحًا أيضًا لكل الفئات الإجتماعية، ولذلك ثمة استراتيجية ممنهجة لصياغة الخطاب الأجتماعي السياسي الشامل،وثمة استراتيجية أخرى لصياغة الخطابات الإجتماعية الفرعيةوالمؤقتة، بمثل هذا الفهم لتنوع آليات الخطاب،يمكن أن يكون الخطاب متنوعًا ادراكا مدركًا لما يجري.. وبعكس ذلك سيكون التخبط والعشوائية سائدة في أي خطاب لا يجيد اختيار دلالته.

عرض مقالات: