المكان: صريفة من صرائف " شط الترك " في البصرة،
الزمان : ليلة خريفية من ليالي العام 1963... في تلك الليلة خرج الفتى الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره من الصريفة مستغلا انشغال أمه بالحديث مع الخالة سكنة الخالة التي كانت تمتلك سطوة وجبروت على الجميع.. اخوتها الاربعة واخواتها الثلاثة.. الخالة سكنة كانت تدخن كثيرا وتبكي كثيرا وتنعى بصوت يشبه بجماله عذوبة صوت عبد الباسط عبد الصمد الذي كان يعشق سماعه من الراديو الوحيد الذي يملكه الخال رحيم كان يرفع زر الصوت كل صباح ويوقظ الصوت الشجي الجميع، أما خالته سكنه والتي كانت تملك اسماً أخر هو الملاية او زايرة سكنه، لأنها كانت تمتلك حظوة مكنتها من زيارة قبر الامام الرضا.. وسميت زايره.. يسمع الفتى صوتها يتصاعد مصحوبا بالبكاء والنعي وهي تتحدث عن معركة وعن سيد شباب الجنة.. عن رجل اسمه الحسين.. وعن اخيه العباس وعن أمرأه اسمها زينب.. وحينما سأل أمه ذات يوم : لماذا تبكي كل يوم أماه ؟ ومن هم هؤلاء الذين تذكرهم بالاسم... الحسين والعباس وزينب.. والسجاد وعلي الاكبر وطفلة صغيرة اسمها رقية حدثته أمه عن معركة الطف.. عن مدينة اسمها كربلاء عن العشرة الاولى من محرم عن الطقوس.. عن اللطم والبكاء ولبس السواد عن المجالس.. ولم يكن قد حضر مجلسا من قبل حتى تلك الليلة من خريف العام الثالث بعد الستين، قال : كنت اخترق أزقة وأمر قرب بيوت كلها كانت تبكي.. صرائف تذرف الدمع.. وكنت أسمع صوتا شجيا ينبعث من حسينية سيد صروط الحسينية التي امتلأت قاعتها الكبيرة بالرجال، الحسينة التي اختلف شكلها الذي اعرفه..إذ غطت اعمدتها الحجرية قطع قماش سود كانت هي المبنى الحجري الوحيد وسط حي شط الترك الباقي كلها صرائف من القصب والبواري.. وهي المبنى الوحيد الذي رصت ارضيته بالاسمنت.. الجدران مليئة بيافطات سود كتب عليها كلها كلمة يا حسين.. يا شهيد كربلاء الحسين الذي حدثتني عنه امي.. هو ذاته الحسين الذي كان صاحب الصوت الشجي يردد اسمه بين الحين والاخر ويتصاعد البكاء وضرب الرؤوس.. والوجوه.. ودون أن اعلم كيف .. وجدت نفسي اذرف دموعا ساخنة ومتدفقة وبدأت اضرب على رأسي ووجهي حتى تورم.. ولولا يد رجل كان قربي، منعني لواصلت ضرب وجهي.. ولتواصل الدم الذي كان يتدفق بغزارة من انفي وجلدة وجهي الرقيقة ربما خدشت وجهي بأضفاري دون أن اعلم حزنت كثيرا وانا اسمع صوت الرجل الشجي وهو يصرخ بين الحين والاخر.. وا حسيناه... .. بكيت عليهم وعلى نفسي وعلى أمي وكنت أستعيد صوت خالتي سكنة الشجي تحدث نفسها في الصريفة وهي تنعى بشجن يشبه شجن صوت عبد الباسط عبد الصمد، وتنهي كلماتها بذات اللازمة واحسيناه واعباساه.... ... هكذا بدأت علاقتي مع الحسين منذ تلك الليلة الخريفية من ليالي عام 1963...
ضد النسيان.. قبر وشط
- التفاصيل
- محمد علوان جبر
- ادب وفن
- 1377