في الثالث والعشرين من نيسان 1564 ولد وليم شكسبير في بلدة ستراتفورد احد اعمال اقليم يوركشاير القريبة من غابة آردن وعلى مرمى حجر من تلال ويلز ذات السماوات المكفهرة والوان قوس قزح، حدثت هذه الولادة في عيد القديس جورج، ولهذا ما زال ابناء البلدة المذكورة يعدون مولد شكسبير يوم احتفال وطني، وهو وفاء ملائم في الاقل لبلدة منسية في الريف الانكليزي جعل منها الوليد حاضرة الدنيا ومحط انظار العالم.
وحين اعانته القابلة المأذونة على الخروج من الرحم الى عالم الزمن – كما تقول احدى السير الموثوقة لشكسبير – غُسل كأس مولود في القرن السادس عشر، واحكم لف قماطه على قماش ابيض ناعم، ثم نزل به الى الطابق السفلي ليقدمه الى والده كي يحظى بمباركته الكاثوليكية الملزمة. وبعد هذا الترحيب الطقسي اعيد الى الغرفة التي ولد فيها، وهو ما زال دافئا وغامضاً، حيث اضجع الى جانب والدته. وكانت النية في ذلك ان تلقم الام رضيعها الخلاصة المقطرة من حليبها المكتنز الفوار قبل ان يوضع في مهده. كان الطفل يلقم ايضا وقتذاك قليلا من الزيدة والعسل، وجرت العادة في ستراتفورد ان يعطى الرضيع مخ ارنب مخفوق بالماء الساخن كأي عصيد هلامي في قدر قصديري ساحن.
وفي نطاق هذه الولادة، فان يوم تعميد شكسبير معروف على وجه الدقة لدى أهالي بلدته بالتاريخ والتفاصيل وما حدث ايضا من عراقيل وعوائق. لقد جرى تعميده في كنيسة الثالوث المقدس باسم الاب جون شكسبير يوم الاربعاء 26 نيسان من عام 1564. وفي سجل تلك الكنيسة دون موظف الابرشية الاسم باللاتينية وزل قلمه فيها، اذ كتب Johannes Shakespear، وكان ينبغي ان يكتب johannis، بتبديل حرف العلة (e) بحرف العلة (i). اذ ينتهي آل شكسبير الى سلالة قديمة، ويوجد ثمانون نطقا او تهجئة مختلفة لاسم شكسبير ذاته، منها: ساكسبير، وشاكوسير، وساكسير، وشاكستاف، وشاكسير، وشاسبير, وربما يشهد هذا النطق وهذه التهجئات على الطبيعة المتنوعة والمتعددة شيئا من النغم او الاصوات لهويته المفترضة، خصوصا وان التنوع يوحي بالتكاثر والشمولية وفي وثائق ستراتفورد وحدها يوجد نحو عشرين تهجئة مختلفة ومنفصلة عن الاسم الصحيح والمعتمد لشكسبير.
وكما تخبرنا الحوليات المتعددة للسيرة الشكسبيرية فقد حمل الاب جون شكسبير طفله من موضع ولادته في شارع "هنلي" على امتداد الشارع العام وصولا الى شارع الكنيسة حينما لم تحضر الام للتعميد، بل كان جون شكسبير ووليده الجديد يصطحبه بعض العرابين، وكان وليم سميث في صدارتهم، كجار اصيل وبائع خردة موثوق، لا يأتيه الشك من الجميع، فقد سمّي الطفل باسمه قبل ان يغطس في جرن التعميد، وقبل ان ترسم على جبينه علامة الصليب وعند هذا الجرن حض العرابون الآخرون على التأكد من ان وليم شكسبير قد سمع العظاة، وتعلّم قانون الايمان المسيحي الموجب اضافة الى الصلاة الربانية.
وبعد هذا التعميد وضعت قطعة من قماش الكتان الابيض على رأس المولود، وبقي في الكنيسة حتى اقامة الصلاة من اجل الام. وكانت هذه القطعة الكتانية البيضاء تدعى "ثوب العماد" وهي تستخدم كفناً ان مات الطفل في غضون شهر. وفي عهد اليزابيث التي تسلمت عرش انكلترا قبل ولادة وليم شكسبير بأربعة اعوام كانت طقوس الكنيسة الانجليكانية لا يزال العرابون يفضلون مباركتهم لأي مولود جديد، باهدائهم الطفل قمصان تعميد او ملاعق فضية، منقوش على نهايات مقابضها صور الرسل، ثم التهام كعكة التعميد احتفالا بالمناسبة. كانوا رغم كل شيء يحتفلون بضمان الحياة الابدية لوليم شكسبير الصغير.
ومن العجب المثير في حياة شكسبير الارضية في موطن ولادته ببلدة ستراتفورد حجم الوفيات التي تداهم الاطفال بسبب الاوبئة المتعددة، اذ كان على الوليد ان يكون صلب العود، او من اسرة غنية الى حد معقول، لكي ينجو من مصادفات الموت. ولعل شكسبير كان له هذان الامتيازان كلاهما.
وان نجا شكسبير من معاناة الفزع والارتجاف من اوبئة المرض، فقد عاناها الابوان "جون شكسبير وماري آردن" حينما فقدا ابنتين جميلتين في طفولتهما المبكرة، ولذلك فان العناية التي اولياها لابنهما الاول، لا بد ان تكون ملتزمة وشديدة، ولعل مثل هؤلاء الاطفال يشعرون بانهم مباركون ومحميون بمعنى ما من مشقات الدنيا. ومن المغالاة ان نذكر ان شكسبير الطفل او الفتى لم يلتقط عدوى الطاعون او الاوبئة الاخرى التي كثيرا ما تتفشى في لندن، ولكننا نستطيع ان نرى ايضا سمات ذلك الابن المحظوظ في ميزة الارض التي انطلق منها.
عاش وليم شكسبير في ريف ستراتفورد القريبة من غابة آردن كما ذكرنا، وهذه الغابة العظيمة كانت في مرحلة ما قبل التاريخ ملاذا للقبائل البريطانية ضد الغزاة الرومان، وقد تشرّب شكسبير في طفولته المذكورة عجائب هذه الغابة التي تعد دائما في ذاكرته رمزا للتوحش والمقاومة فكتب من وحيها مسرحياته المعروفة: "كما تشاء، حلم منتصف ليلة صيف، سيمبلين، تيتوس اندروكليس...". بانشراح وشجن يصل الى توصيف هذه الغابة كرمز للفولكلور والذاكرة القديمة حتى وان كانت مكانا للاختباء اضافة الى صناعتها المانيو فكتورية "الحرفية القديمة". كانت غابة آردن منطقة يمكن ان يدخلها الخارجون عن القانون والمشردون للتحصن فيها، ولذلك كان سكان المناطق المكشوفة ينظرون الى سكان الغابة نظرة فيها شيء من الكره والازدراء.
كان سكان هذه الغابة، على وفق المنطق الشكسبيري في المسرحيات المذكورة: "فاجرون في حياتهم وحديثهم، كانوا لا يعرفون الرب او اي مسلك من مسالك الحياة المدنية شأن المتوحشين بين الوثنيين". وهكذا يمتزج تارخ التمرد بتاريخ الهمجية والعصيان المحتمل.
وفي غمرة هذه الطفولة الشكسبيرية التي عاشها شكسبير الطفل وفي غمرة هذه الطفولة الشكسبيرية التي عاشها شكسبير الطفل بالفطرة حينا، او في سياق ذلك التوازن الحياتي الذي يجمع الكثير من الشطط والتقلبات، كانت ستراتفورد تستقبل في عام 1569 فرقة تمثيل لندنية تحت رعاية والده العمدة جون شكسبير وهذه لحظة مهمة في حياة شكسبير ايضا، اذ اتيح للولد البالغ خمسة اعوام من العمر ان يشاهد اول مرة عالم المهرجانات والمظاهر ذات الايقاع الدرامي. ولقد دعا والده مجموعتين من الممثلين للترفيه عن البلدة، وهما فرقة الملكة وفرقة ايرل وورستر، وكان الترفيه متعدد الالوان يشمل الرقص والموسيقى والغناء وبعض الالعاب الاكروباتية، اذ كان يتوقع من الممثل ان يكون مغنيا وبهلوانا، وكانت تؤدي عروضا صامتة وتلقي خطبا وتسيّر مواكب مع طبول وابواق، وكانت تجري مبارزات ومصارعات. والسؤال المفتوح هو كم شاهد شكسبير من هذه العروض وكم تذكر منها؟
هذا السؤال، نطرحه اخيرا في سياق الكتاب الأخّاذ للمؤرخ الانكليزي بيتر اكرويد الذي حمل عنوان "سيرة شكسبير"، ذلك ان وجود شكسبير في اوربا والعالم الغربي، تماما كما هو وجوده عند الناطقين باللغة العربية، شكّل صدمة او زلزالاً في مفاهيمنا الدرامية والشعرية والجمالية والدلالية. ويبقى ان استعراضنا لولادة شكسبير ومن ثم استعراض شبابه في مراحل متعددة وكما عرفناه في مسرحنا العراقي من خلال العديد من العروض المسرحية على منصاتنا المسرحية، وهو دليل على نجاحنا النسبي في التعرف على اهمية شكسبير وعظمة اعمال شكسبير المسرحية ذات المناحي التراجيدية والكوميدية والتراجيكوميدية معاً.
وفي خضم هذه السيرة المذكورة التي كتبها اكرويد لشكسبير اعتمادا على وثائق معززة بمدارسه وامكنة اعماله المتعددة التي قد لا تكسبه مزيدا من القداسة، فان شكسبير محض ريفي مهاجر من ستراتفورد الى لندن حينما كان موضع سخرية زملائه المسرحيين الجامعيين، امثال كريستوفر مارلو، وتوماس كيد، وبن جونسون وتوماس ناش وروبرت غرين، وآخرين.
ومع ذلك، فان هذه السيرة قد تفضح عن صورة رجل "جنتلمان" فطري بريء في مدينة كوموسبولية كلندن، ففيهما نلمس جزءاً من حياة شكسبير المدنية، حينما تمرد هذا المبدع على محيطه الضيق، فهرب من اجواء ستراتفورد بحثا عن الحياة، من القيود العائلية والاجتماعية بحثا عن الحرية، ومن الكتب والحرمان بحثا عن الجمال، ومن الاسوار بحثا عن الطبيعة ومن الروحانيات الى الماديات، وجسد مواقفه وردود افعاله في مسرحياته وسونيتاته الخالدة.