لم تعد قراءة الثقافة العراقية، ومنجزاتها النوعية المتميزة قراءة عادية، فموقع قصيدة النثر، وشيوعها، واتساع كتابها فرض على النقد الحديث رؤيتها بانجازاتها المتميزة عراقيا وعربيا، ويكاد نقدنا الصحفي والمقالي يدور في فلك توصيفات هذه القصيدة ودورها، والقلة منا، وأنا من بينهم من يعتقد إنَّ مستقبل الشعرية هو قصيدة النثر، ولكن بالطرائق الفنية المتميزة، وليس وفق ما يكتبه الكثير من الشعراء. وذهب بي الأمر الى الإشارة إلى إن الحركة الثاتية لقصيدة الحداثة، تكمن في أشكال عديدة من التجارب الشعرية من بينها قصيدة النثر.
إلا أن كل ما كتبناه، نقدًا صحفيًا، أو مقاليًا حديثًا، بقي ضمن إطار عدم تحديد الحدود المفتاحية أو الفواصل بين قصيدة الحداثة ذات الإيقاع والوزن والنبرة، وقصيدة النثر التي اهتمت بازاحة هذه المواصفات عن بنية بيتها الفنية، ودراسة قصيدة النثر بطريقة اكاديمية كما فعل الدكتور جاسم الخالدي، هي الطريقة الأكثر رصانة في تشخيص أبعاد وخصائص هذه القصيدة، فالأكاديمية بالرغم من صرامتها، ومنهجيتها تتغلغل في بنية الموضوع بطريقة لا يمكننا نحن نقاد المقالات والدراسات الأدبية والثقافية الوقوف عندها، والكتاب النقدي المهم الذي اصدره الدكتور جاسم الخالدي "الخطاب النقدي ، حول قصيدة النثر العربية" يتجاوز قصيدة النثر في الحقل العراقي، وهذا أول المفاتيح التي تتيح للقارئ الوقوف على ما خلف الأبواب الإنتاجية العديدة لقصيدة النثر العربية. كما يتجاوز الآراء المحدودة الأفق بل ذهب إلى دراسة الدراسات والكتب النقدية التي عالجت قصيدة النثر منذ بداياتها حتى وقتنا الحاضر، ولولا الطريقة الأكاديمية في البحث لما أمكن للدكتور الخالدي الإلمام بشمولية الرؤى النقدية لقصيدة النثر وتنوعاتها والمدارات النقدية التي عالجتها.
الميزة الأولى : إضافة إلى السعة المرجعية المتقصية للدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية- ، والتي اهتم بها الدكتور الخالدي أثبت أن قصيدة النثر لم تنبثق كردة فعل ضد الأشكال المكرسة لقصيدة الحداثة، وهذا يعني إنَّ ولادتها تمت بطريقة منهجية من البنية الجدلية لصنوف أدبية وفنية مختلفة، بمعنى أنَّها لم تظهر ضد الحداثة، ولم تكن بديلا لها، بل نمت إلى جوارها ضمن تيار الحداثة الجارف، وهذا الإهتمام يؤكد أن المباحث الأكاديمية تهتم بالاشكال الفنية الراسخة، وهو جزء من مهمة الأكاديمية في أعرافها وتقاليدها المنهجية،" درس ذلك في تنوع الخطاب النقدي لقصيدة النثر... بما سماه الحركة النقدية المرافقة لقصيدة النثر" ومن يستقرئ تاريخ العلاقة بين الدرس الأكاديمي والأشكال الفنية التجريبية، نجد الجامعة تقف بوجه الاتجاهات التجريبية والشعبية لأنَّها لا تتعامل مع المنهجية الصارمة لمفهوم الأكاديمية، ولا تعد هذه الدراسة خروجًا على هذه التقاليد، بل تأكيدا لأهمية قصيدة النثر من أنها اثبتت جدارتها أكاديميًا، الأمر الذي أتاح لشعراء هذه القصيدة أن يؤسسوا رؤيتهم الثقافية والفكرية على أرضية صلبة وممنهجة.
الأمر الثاني: الذي اشار اليه الدكتور الخالدي في عموم الدراسة، هو محاولته نسف الفواصل بين الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة كما تسميها كتب مابعد الحداثة، ورؤية هذه المحاولة لا تخلو من مغامرة نقدية من لأن تمظهرات الثقافة الشعبية من السيولة والعمومية قد لا تفرز أشكالا ثابتة ورصينة للدراسة، ولكن الدكتور الخالدي وهو يفحص مجمل تيارات قصيدة النثر العربية ومصادر نقدها والاستشهاد بها، نجده يقف على مئات المصادر العربية والأجنبية المترجمة، الأمر الذي يعيدنا إلى فهم أكثر واقعية أن الثقافة الشعبية هي المصدر الأكثر نجاعة في توفير المادة الخام للتيارات التجريبية على مختلف المستويات الثقافية والفكرية.
الأمر الثالث : حاول الدكتور الخالدي أن لا يطمس النماذج الأقدم من قصيدة النثر، فهو يؤسس لقصيدة النثر من مصدرين كبيرين، تطوراتها عن قصيدة الحداثة، خاصة النماذج التي شكلت البدايات، وهذا يعني إن أي انتاج فني جديد لابد وأن يكون له ابوان كي لا يكون هجينا يولد ثم يموت بقصوره الجسدي. ومن تلاقحها الثقافي مع نماذج اجنبية وعربية حديثة. ضمن هذا المسعى الواسع، نجد الدكتور الخالدي ومن خلال الخطاب النقدي قد مدّ تصوراته إلى أبعد من قصيدة النثر، إلى الأرضية الفكرية والاجتماعية التي اسهمت في تنشيط هذا التيار وترسيخه. فمادية قصيدة النثر وانتاجها تبدو فقيرة دون الأرضية التي انتجتها، و الأفكار التي تعاملت معها، والنتائج الممكن استخلاصها من مجمل الحراك الثقافي اجتماعيا. شخصيا أرى إنَّ دراسة هذه الأنواع المتنحية سابقا، والتي أصبحت الآن في صدارة الإنتاج الشعري، لم تقم لذاتها ومن ذاتها، فقراءة متمعنة كما فعل الدكتور الخالدي لمصادر الظاهرة نقديا تؤثل هذه التجارب برؤية اجتماعية ترتبط بمجمل إنتاج المجتمع ثقافيا، كما تشير إلى جذور غير مرئية، وهي الجذور الاجتماعية والفلسفية والثقافية التي اسهمت مجتمعة في توسيع قاعدة القول الشعري المنفتح على تيارات الحداثة، وبدأنا نتلمس هذه السعة عندما أصبحت الشعرية مفهومًا يشمل الرواية والقصة واللوحة وحتى النقد، فلمفاهيم مثل "اللا أدبي" من الاشكال الإجتماعية والفنية، و"للمتروكات والهوامش وللثانويات والمهملات" شكلت دورًا مهمًا في تهيئة أرضية واسعة للغة الشعرية الحديثة، مما يعني إن انزياحًا فكريًا واسعًا جرى في تعامل الشاعر مع مظاهر الحياة بسعتها وتنوعها، وقد خصص الدكتور حيزًا واسعا لدراسة هذه الظاهرة الإجتماعية من خلال رؤى النقاد لها، والتي انبتت الكثير من تصورات قصيدة النثر لاحقا.
من الملامح الأخرى والتي اعتبرها مهمة جدًا هي تضمين قصيدة النثر الرؤية الفنتازية والغنائية الشعبية التي ارتبطت بنوعية من القول النقدي الساخر، فقد تعد هذه الاشكال محلية، ولكنها في حقيقة وجودها جزءا من بنية الثقافة أو ما يسمى"التحثقافة"، وهي الأشكال التي تشترك في انتاجها قطاعات واسعة من حياة الناس اليومية، وخاصة المجمعات السكنية الفقيرة في حواف المدن، حيث يصبح المكان مولدا للهجات اجتماعية مليئة بالساخر واليومي والثانوي وغير المألوف.
على المستوى الفني كشف الدكتور الخالدي عن تعامل النقاد مع معمارية قصيدة النثر، حيث ركز في استقصاءاته على الوحدة الميكانيكية لتكوين هذا النمط من القصائد، وأشار ضمنا إلى وجود معمارية عامة، تتمظهر فيها قدرة الشاعر على فهم الطريقة الفنية الأكثر صوابًا، من خلال رفض اية معمارية ثابتة سواء للمقطع أو للقصيدة كلها، كما لم يهتم الشعر ببنية الجملة ولا تركيبها العام، فهو كي يخرجها من نثرية القصة جعلها مطعمة بايقاعية الفكر وبنية الحدث، ليؤسس ما يشبه البنية الدائرية في الكثير من القصائد. أي استخدام القيمة التعبيرية للاصوات على حسب قول سوزان برنار. وتكاد الفصول التي درس فيها نقد قصيدة النثر في ضوء المناهج الحديثة من أكثر الفصول اهتمامًا بتتبع التنويعات المنهجية لدراسة قصيدة النثر والتي كونت هوية "الخطاب النقدي" وهو ميدان الشغل المعرفي في هذا الجهد.
وفي العمق من هذا الاهتمام اشار الدكتور الخالدي إلى البحوث التي اشارت إلى عودة شعراء قصيدة النثر إلى الرومانسية، خاصة في انفتاح النص النثري وعدم غلق بدايات القصيدة او نهاياتها، أي استثمار الخيال بطريقة تمكن الشاعر من الإنتقالات الى جماليات الإيحاء. لعل هذه الدراسة التي تضع الكثير من النقاط المفتوحة التي تمهد الطريق لدراسات أخرى، لتعالج جوانب من قصيدة النثر، خاصة ما يخص التقنية، تقنية المقطع، وفنية المقطع، ومنظورات اللوحة الفنية للقصيدة، والقيمة الايحائية للصمت والنقاط والبياضات والفوارز، ونحن على بينة أن مستقبل الشعرية هو تنقية القصيدة الحديثة من عوائقها الداخلية قبل الخارجية، فطغيان البنية الصارمة التي فرضها الوزن والايقاع هو مخالف للطبيعة التكوينية لحداثة المجتمعات، الحداثة التي ترى في الحرية المنضبطة طريقًا غير ملائم للقول الشعري والفلسفي والحداثي. فليست قصيدة النثر إلا وعاءً فنيًا كبيرًا يحتوي في داخله نبوءات ومقالات نقدية ورؤية مأساوية، وعذوبة ورقة وسعة مكانية واستعارات لا حدود لها، وتعبيرات لاذعة، ورواية شعبية مشتركة بين الشاعر والقارئ، والغاء لحروف العطف، والانتماء للحركة الإجتماعية الفاعلة ، وصياغة جديدة للبلاغة الحارة على حسب تعبير "ميكيفيتش".

عرض مقالات: