طريق الشعب (خاص)- لندن
على الشاشة الكبيرة في واجهة الصالة كانت تظهر صورة الراحل إبراهيم الخياط ، وبعد ان عرض على الشاشة فيلم قصير تحدث فيه الشاعر الخياط وهو يجيب عن سؤال لماذا أكتب ؟ إبتدأ الفنان التشكيلي فيصل لعيبي بكلمة نعى فيها المقهى الثقافي العراقي في لندن الفقيد جاء فيها:
"ينعى المقهى الثقافي العراقي في لندن ، فقيد الثقافة والإبداع والوطن ، الشاعروالصحفي إبراهيم الخياط، الأمين العام لإتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين، الذي فارقنا إثر حادث مؤسف ، أثناء سفره لحضور نشاط ثقافي في مدينة دهوك.
إننا إذ نعزي أنفسنا وسائر المبدعين، إنما نؤكد أن قضية الراحل إبراهيم ، لا تزال بإيد امينة وأن مخاضه الطويل والمفعم بنكران الذات والإيثار لن تمحى آثاره وملامحه من خريطة دربه من اجل عراق مدني ، حضاري وتعددي، عراق، يستمد من أمثاله وممن سبقوه الى الجهة الأخرى من مبدعي عراقنا الخصيب المثال والخلق والممارسة.
خسارتنا بك وبهم لا تعوض ولكن الذي أنجب إبراهيم وامثاله ، سينجب حتماً العشرات على شاكلته.
الذكر العطر لفقيدنا الشاعرالوطني إبراهيم الخياط والمواساة القلبية لعائلته وذويه وكافة زملائه ومحبيه.
شغيلة المقهى الثقافي العراقي في لندن"
ثم دعا الفنان فيصل السينمائي قاسم عبد ليتحدث عن تعامل السينما مع الرواية فتناول في مداخلته أبرز الفروق بينهما كجنسين ابداعيين مختلفين فقال " إن الرواية تقدم المزاج مثلا من خلال الوصف في حين أن السينما تقدمه عبر لغتها البصرية " وقال إن للسينما وسائلها في التعبير باستخدام عناصرها الأساسية كاللون والمونتاج والموسيقى ..الخ هذا فضلا عما يقدمه الممثل من مشاعر وإحساس وأفعال الشخصية المتقمَّصة بتجسيد حي على الشاشةـ في حين أن الروائي قد يأخذ منه وصف الحالة النفسية للشخصية تدبيج صفحات عديدة، قد يختصرها المخرج بلقطات قصيرة كبيرة للوجه ..ثم تحدث الفنان قاسم عن الرواية مؤكدا أنها نتاج شخص فرد هو كاتبها، لكن السينما تتضافر جهود مبدعين عديدين لتقديم الفيلم، حيث لكل منهم رؤيته ووسيلته كالمخرج والمصور ومصممي المناظر والأزياء والإضاءة ..الخ.
كانت هذه المقدمة تمهيدا لما طرحه الروائي لؤي عبد الإله ،ضيف الأمسية ، الذي قدم ورقة جاءت شاملة تناولت هذا الموضوع من مختلف زواياه، والتي سنحاول في هذه التغطية السريعة استعراض أهم ما تضمنتها ، ولا بد لنا أن ننوه أن لؤي تناول تاريخ الرواية وتطورها، وتطرق الى تعامل الإنسان مع الصورة قبل اللغة ، وقدم تحليلا لأدب تولستوي وعلاقته بالفلسفة ونزعته الأخلاقية وما أراد ان يقوله عن مجتمعه في روايته (الحرب والسلم)، وكيف عمل عليها كل من المخرجَين الأمريكي كنغ والروسي بوندارتشوك عبر دراسته المعمقة للعلاقة بين الجنسين الفنيين الروائي والسينمائي وخصائص كل منهما وما استفاد الأخير من الأول كوريث حيث اعتبره ابنا له .
وعرضت الأمسية صورا قال عنها المحاضر :" الصور التي رسمها الإنسان البدائي على جدران الكهوف التي كانت سكنه، في محاولة منه لجعل طرائده من الحيوانات تتحرك عبر تكرارها" وأضاف :" وفي المتحف البريطاني يمكننا مشاهدة أعمال أكثر نضجا لفنانين مجهولين حيث صوروا (في القرن الثامن قبل الميلاد) عبر جدارياتهم سلسلة متعاقبة من مشاهد المعارك وصيد الأسود" وعرض فيلما قصيرا عن تلك الجداريات وصفه لؤي قائلا:" لا يمكنني القول إن هناك تنبؤا ما بظهور السينما بعد أكثر من ألفي سنة، لتمنح سلسلة الرسوم هذه حركة وحياة مثلما هو الحال مع الرسوم المتحركة (أفلام الكرتون)، لكنني قد أستطيع افتراض أن الحلم الذي ظل مرافقا للإنسان منذ زمن قديم هو بشكل ما فيلم مكثف يسقطه اللاشعور على شاشة غامضة غير محددة في مكان ما من رأس الحالم". مستشهدا بقول الفيلسوف شوبنهاور( إن الانسان يفكر عبر الصور)، و أضاف:" أن إدراك الأفكار يمر عبر تحويلها إلى صور أولا قبل اكتسابها".
وواصل المحاضر حديثه عن تطور الفنون عبر التاريخ، والرعاية التي حظيت بها من قبل طبقات اجتماعية صاعدة، مقابل ما تكسبه من إمتاع، وذكر أنه :"لم يمض وقت طويل حتى ظهر فن مسلٍّ وممتع غير الرسم والمسرح هو الرواية في النصف الأول من القرن السادس عشر. وكان عمل الكاتب والطبيب الفرنسي فرانسوا رابليه (1483-1553) الأدبي "غارغانتوا وبانتوغرويل" الذي ضم أصنافا أدبية مختلفة تتراوح ما بين السخرية والفنطازيا إلى الدعابة والاستطرادات الفلسفية، نقطة انطلاق، راح الكثيرون من الكتاب ينسجون على طريقته بشكل أو بآخر نصوصا (أُطِلق عليها لاحقا اسم الرواية) وهذه الأعمال الأدبية كانت تدور بالدرجة الأولى حول مغامرات الحب والفروسية وقصص مقتبسة من التاريخ".ثم تناول عبد الإله اسهامات كل من سرفانتس في اسلوب السرد وصولا الى مرحلة النضج على يد كل من بلزاك و ستاندال بعد مرور ثلاثة قرون حيث تحققت ملامح الرواية التي التزمت فيها اجيال لاحقة.
أما عن الفن السينمائي فقد ذكر لؤي عبدالإله في محاضرته أنه :" لم يحتج إلى هذا الوقت الطويل لبلوغ مرحلة نضجه، وهذا بالطبع للشعبية الواسعة التي حظي بها، والمدخول الضخم الذي بدأت شبابيك تذاكر قاعات السينما تحققه لمنتجي الأفلام".
لكن لؤي اعتبر كلا الفنين(الروائي والسينمائي) هما للتسلية والإمتاع وتجنب المباشرة والتعليم والانحياز مع هذه الشخصية أو تلك، ولامتلاك القدرة على التأثير على المتفرج تبنت السينما أدوات فعالة أخرى مثل الموسيقى واللون والمكياج وغيرها أي وسائل غير مباشرة ورمزية لنشر فكرة أو قناعة معينة.. وجاء على ذكر نقاط الالتقاء بينهما قائلا:"مثلما استثمرت الرواية البناء الدرامي للفن المسرحي، فإن السينما استثمرت هذا الإرث، لكنها أخذت من الرواية عناصر أخرى واستثمرتها صوريا، فهناك إبطاء وتسريع الزمن في الرواية حين يقترب الراوي من شخصية ما ويبدأ بإبطاء الزمن الروائي فيستطيع أن يقدم لنا شيئا عن ماضيه أو نستطيع سماع صوته الداخلي أو ما يدور في رأسه من أفكار ومشاعر، وفي السينما أصبح ما يضاهي هذه التقنية استخدام "الكلوز آب" . لكل ذلك يقول ايزنشتاين (المخرج السوفييتي) إن تقنيات السرد الأدبي في الرواية بالدرجة الأولى هي مكون ضروري للسينما".
هناك تشابه في استخدام الزمن بين الرواية (كما صيغت في القرن التاسع عشر) والسينما، إذ كلاهما يقدمان أحداثا تتقدم من الماضي باتجاه المستقبل، أي تعاقب الأحداث زمنيا، لكن هناك فارقا عضويا بينهما في علاقتهما مع الزمن (السيكولوجي) والمكان. فالرواية تصنع وهم المكان بالانتقال من نقطة إلى أخرى في الزمان في حين أن الفيلم يصنع الزمن بالتحرك من نقطة إلى نقطة في المكان. بصيغة أخرى: الرواية تصنع وهم المكان عبر الزمن، والفيلم يصنع وهم الزمن عبر المكان.
كذلك فإن الزمن السيكولوجي أو الذهني، كما أشار الكاتب لؤي عبد الإله، محدود في السينما بحكم قوانين الضوء، نحن لا نستطيع أن نرى ما لا يمكننا رؤيته في حين في الرواية يمكننا ذلك، لكن "قوة الفيلم المكانية تجعله قادرا بثواني أن يتنقل في أجزاء المكان سواء بطريقة سكونية حيث رصد التفاصيل الصغيرة في مكان واحد او باستخدام التحولات في الإنارة للإشارة إلى مرور الزمن الذي قد يستغرق أياما في حين أن الزمن الفيزيائي لا يتجاوز دقائق قليلة، أو التحرك في أمكنة متعددة ومعها يتحرك هذا الزمن محمولا على كاهل المكان الذي ترصده الكاميرا".
في المقابل، فإن "هذا العجز الذي تعاني منه الرواية في تباطؤ وصفها للمكان عبر الكلمات تعوضه بقدرتها على التحليل، فالكلمة تستنهض ما لا تستطيع الكاميرا القيام به: منحنا القدرة على الفهم والإدراك للحظة الروائية بفضل قدرة الكلمة على الاستبطان والتحرك الحلزوني في دوامة الزمن، وهذا ما حققته رواية القرن العشرين على يد المجددين في أساليب السرد".
وأضاف لؤي تشخيصا مهما مفاده ان السينما ورثت من بين ما ورثته عن الرواية مبدأ الزمن النوعي( المتميز) والزمن الكمي (العادي)، فالرواية تسعى إلى إسقاط جزء كبير من الأحداث العادية المتكررة التي تدخل ضمن خانة الزمن العادي، مع ذلك فإن انتقالها من النقطة أ إلى النقطة ب يتطلب حشوا معينا يهيئ ذهن المتلقي، وهذا الحشو الفني يشبه الجسر الرابط بين النقطتين المتعاقبتين، بينما لا يحتاج الفيلم إلى الكثير من الحشو، بفضل مخاطبة العين عبر اللقطات والمشاهد القصيرة . وانما "يجمع الرواية بالفيلم هاتان الثنائيتان: الفكرة والصورة. في الرواية تتحول الفكرة التي تنقلها الجملة إلى الذهن إلى صورة وفي تعاقب الجمل وتحولها من أفكار إلى صور تتكامل مع بعضها في فقرة واحدة، أما في السينما فالعكس يحدث إذ أن الصورة التي تنقلهااللقطة التي تلتقطها العينان تتحول إلى فكرة في الذهن، وبتراكم الأفكار واحدة بعد الأخرى تتشكل الفكرة الجامعة التي ينقلها مشهد بأكمله (المعادل للفقرة في الرواية)".
أشار المحاضر أيضا إلى مدى دور الرواية في تشكل وتطور السينما، إذ حسب استطلاع جرى عام 1934 لصالح برايم تايم احتلت الروايات المقتبسة لشركات الأفلام PKO وباراماونت ويونيفرسال الثلث، وفي التقديرات اللاحقة اتضح أنه عند إضافة القصص القصيرة شكل الأدب القصصي نسبة تتجاوز الخمسين في المائة من الأفلام المنتجة.
ثم انتقلت ورقة لؤي عبد الإله الى أدب وفلسفة تولستوي، وما هدف إليه من كتابة ملحمته (الحرب والسلم)، وكيف تحولت الى السينما عام 1957 على يد الامريكي فيدور كنغ، وقارن هذا العمل مع الفيلم السوفييتي الذي أخرجه بوندارتشوك، فقدم على الشاشة مشاهد من الفيلمين تم اختيارها بعناية بحيث قربت الأفكار النظرية للحضور باسلوب أكاديمي – توثيقي جاد وسلس.
حظيت أمسية المقهى هذه بمداخلات من بين الحضور على الرغم من امتداد وقتها لأكثر من ساعتين فجاءت المداخلات مختصرة وعاجلة ولم يستطع الكثير من الحضور الذين كانت لديهم الرغبة في الإدلاء بآرائهم المساهمة في النقاش، ومن بين الذين تحدثوا الكاتبة ابتسام يوسف الطاهر والسيدة أميرة الداغستاني والكاتب والروائي زهير الجزائري الذي ذكر انه كانت هناك في الاتحاد السوفييتي رؤيتان في نقل الروايات التاريخية الى السينما، مثّل الأولى بوندارتشوك والثانية كوزنتسيف؛ الأول نزل الى عالم الرواية من السماء بنوع لتقديس عالم تولستوي نفسه فكان حريصا على نقل العمل بحذافيره أما كوزنتسيف فقد اشتغل على المسرحيات التاريخية لشكسبير بمنهج يقول انه ليس من الضرورة ان ننظر الى العمل التاريخي بنفس عين كاتبه لأننا إمتلكنا أدوات نقد وتحليل تفوقه لذا ينبغي علينا ان نراه بعين عصرنا فمثلا أخذ من مسرحية هاملت وجعلها مفتاحا لتناوله هي غربة هاملت عن البلاط وركز على هذا الجانب بروح نقدية ولم يعر للتفاصيل اهتماما. أما النقطة الثانية التي أشار إليها الجزائري في مداخلته عن ايزنشتاين فقال إنه كان يعتقد ان الكادر (الإطار) في السينما هو الحرف ومجموعة من الكوادر تأتي بعده تكوّن جملة(كما ذكر لؤي) ، لكن بعده جاء التفكيكيون فقالوا ان هذا غير صحيح اذ قالوا ان جزءا من الكادر هو الحرف... " أما الشيء الثالث الذي ذكره زهير فهو انه يتفق مع لؤي في ان تولستوي لخص كل ما اراد قوله في الرواية في الفصل الأخير وهو نظري لا علاقة له باحداث الرواية، وهي نفس الرؤية الهيغلية للتاريخ التي تتلخص بإن التاريخ محكوم بأحداث والناس نتاجا لها .