أعطت حركة التجديد في شعر العامية العراقية وبدءا من مظفر النواب نماذجها الباهرة بعد أن تخلصت من رتابة الأشكال الأولى في القصيدة وبما ينسجم مع إيقاعات العصر الذي عانقه بحماس ووعي ثقافي فيه من الانتقالات الجمالية ما يتطلب الكشف عنه وباستمرار، مع ذلك لا يعني الحكم على تلك النماذج القديمة بالشطب والالغاء والمحو الذي لايرتضيه الإبداع في مجمل حساباته لاسيما موالات الحاج زاير المدهشة وعيا وجمالا.
ولعل تجربة الشاعر طارق ياسين واحدة من أعمق التجارب مغايرة في جيل مابعد النواب، فقد امتازت بالعديد من عناصر المغايرة كتجربة مهمة لخصتها مكونات هذا الشاعر التي أتاحت له التفرد عن معظم مجايليه اذا ما عرفنا بأنه فضلا عن انغماسه بشعر العامية كان مشروعا روائيا وله مخطوطة في هذا إلا وهي روايته المهمة ( الكوميديا) التي بقيت بعد رحيله المبكر عن الحياة عام ١٩٧٥ تتنقل بين الأصدقاء حتى استقرت قيد المجهول، ولحسن حظي اطلعت على فصول منها أثناء زياراتي المتباعدة لبيت اهله الكائن في حي عدن وقتذاك ناهيك عن المامه بالثقافة الموسيقية العالية، وبرغم نتاجه الشعري النادر إلا أنه انحاز الى الظل ولم يكن لاهثا وراء مغريات الشهرة، فما عدا نشره لبعض قصائده في الصفحات المهتمة بالأدب الشعبي لم يصدر له طيلة سنوات حياته سوى قصيدة في مجموعة مشتركة (قصائد للمعركة) بعد حرب حزيران ١٩٦٧ و(خطوات على الماء) ١٩٧٠ وهي الأخرى مشتركة مع صديقيه عزيز السماوي وعلي الشباني).
تجربة طارق ياسين امتازت بمدينيتها الخالصة فقد ابعد مشروعه الشعري عن المفردات المغرقة بمحليتها (الحسجة) التي امتاز بها هذا اللون الشعري بمختلف اجياله المتعاقبة ولربما يعود ذلك الى سببين وفقا لرصدي المبكر في قراءة نتاجه، فهو ابن بيئة بغدادية بعيدة عن متداولات ادمنتها كتابات معظم وأبرز شعراء العامية، والسبب الثاني يتعلق بثقافته الواسعة واطلاعه المستمر على ما افرزته النتاجات الفكرية والفلسفية وتفرعات الآداب والفنون من روايات، ونقد، ومسرح، وسينما، وفنون تشكيلية... الخ. وبهذا فقد انصهرت ثقافته ببيئته لتكون منه مشروعا شعريا.
ان كانت المدينة بوصفها دلالة شعرية أو عالما شعريا تمثل في تجربة ( ابي نواس) فلن نجدها في شعر العامية العراقية مكرسة إلا في قصائد طارق ياسين، مع أن مظفر النواب كان صاحب السبق الأول بدءا من مجموعته الأولى( للريل وحمد) إذ نجد المدينة بلهجتها حاضرة بوضوح في العديد من قصائده حتى تلك التي دارت أحداثها في ريف الجنوب العراقي كـ (مامش مايل، ديج ابو العرفين، زرازير البراري، جنح اغنيده، ايام المزبن). لكن طارق ياسين كرس المدينة في قصائده لهجة ومضامينا وبكل ما أحاط بالمدينة (بغداد) التي ولد وعاش ورحل عن الدنيا فيها مأخوذا بفتنة نهاراتها وأضواء لياليها وطقوسها كتلك التي جاءت في غنائيته (لاخبر):
(واكصايب الحلوات عدكم سهرت/ ضحكات حلوات وهلاهل عنبر / واخصور تهتز للضوه وتتكسر / حتى ابساتين الهجر شبت براعم ورده / واعتلكت اقنادبل وزغيرون شب ابمهده).
ليل المدينة كل شيء في حياة الشاعر فهو الساكن المخيف الغامض، المضيء المعتم، المضطرب المشع، حتى يصل بجميع متناقضاته إلى نقطة التشكيل التي تركن في أقصى الرؤية الشعرية:
(/ مدينة هلي ياسرج النوايب/ اسيام اتيولج المتشابجه اكصايب / واتريكاتهه انهود/ والشارع السان اطويل ممدود).
في هذه القصيدة تحديدا والتي حملت إهداء الى صديقه منعم العظيم - منعم حسن.. يأخذ التعب اليومي كل تفاصيله التي تمثل تفاصيل يوم بغدادي يعيشه الشاعر ويمنح القصيدة الطاقة الكامنة في روحه، والتي هي الأخرى طاقة غرائبية النزعة والبوح برغم سرد الجزئيات :
(ادور ع التعب بين الكراسي الخاليه منل ناس/ وابين الكراسي الغاصه بالناس/ بين العرك اليفصل جسدهم عن ملابسهم / بين أحلامهم والواقع الفارغ منل بهجه/ موج البر حبيبي وروحي محفوره / ابجامه امشجره ع الباب/ وصبر يكبر صباح وتطلع اشموسه على الاهداب).
بقدر ما يدمن الشاعر على صياغة اعراس المدينة ويبتهج باضوائها الخادعة إلا أنه سرعان ما يتحول إلى منذر حال دهم الأقدار المتوحشة لها فكيف إذاً كانت (بغداد) التي انفتحت شهوة الغزوات والاحتلال عليها منذ (هولاكو) ولربما قبله والى اليوم، يحس طارق الشاعر بمسؤوليته التي يستدعيها الشعر والحياة معا ليتحول إلى ذلك الكائن الغاضب الصائح عند بواباتها:
( فربت المدينه ابليل/ فريت المدينه وخبطت ع البوب/ كلتلكم اجتي الربح دهوا البوب/ اخاف الريح تخلع بوبكم ونظل دشر والدور بينه اتدور/ وكل واحد يحط لوحه على اجتافه سفينه وينتظر طوفان / وكلتلكم وكلتلكم وكلتوا هلولد حلمان).
قصائد طارق ياسين تنتمي الى المدينة بكل ما فيها حتى الجزئيات، بتاريخها وجغرافبتها وتحولاتها مثلما هي عائمة بمفرداته المأخوذة من ثقافته الواسعة التي عززت نقاء تجربته الشعرية ولذا فكم كان على قرابة من مقولة اليوت: ( أن ولاء الشاعر الأول يجب أن يكون للغة التي يرثها من الماضي والتي يجب أن يحافظ عليها وينميها).

عرض مقالات: