غلافه الجميل الرصين يشي بمحتواه الفائق في الدقة والتنظيم وحسن الاختيار والثراء المعلوماتي. كتاب أكاديمي ان لم نقل تعليميا في نظرية الرواية العربية وتاريخها، شارك في تأليفه سبعة وثلاثون باحثا في فن الرواية، عملوا على وضع نظرية حديثة بديلة تتحدى الافكار المتعارف عليها حتى الآن في نشأة الرواية العربية ومآلاتها. بذلك فأنه ليس مجرد موسوعة او دليل تقليدي يقدم معلومات أرشيفية عن اسم بعينه او عمل ما، معلومات من نوع التواريخ ووصف العمل وفكرة موجزة عنه... الخ. بل أنه كتاب يسعى الى وضع نظرية بديلة ويناقش ويفنّد المقولات السائدة في نشأة الرواية العربية. فهو مشروع ضخم تصب كل البحوث والدراسات المتضمنة فيه في اتجاه يعزز المقولات الجديدة.
كما هو متوقع في الفقرة الاولى من المقدمة يطرح محرر الدليل البروفسور وائل حسن، استاذ الادب العالمي والمقارن في جامعة الينويز، يطرح الاشكالية التي طالما دار الخلاف حولها بين الباحثين: هل أن الرواية العربية فن يمتد بجذوره الى التقاليد النثرية عند العرب؟ أم أنه مستورد كليا من اوربا؟ الكتاب ينتصر بحماسة للاتجاه الاول ويضرب على ذلك مثلا كلَّ انماط السرد النثرية العربية منذ ما قبل الاسلام: الخبر والخرافة والاسطورة وأيام العرب والرواية والحكاية والرسالة والسيرة والقصة والمقامة والرحلة والتاريخ بل حتى النص القرآني والأحاديث النبوية. ويدلل على ذلك كاظم جهاد حسن ان هذه التقاليد الهائلة من السرديات النثرية مهدت الطريق للاستقبال السلس الذي حظيت به الرواية الاوربية عندما وصلت الى العرب عن طريق الترجمة او الاقتباس او التقليد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واختلطت بالتقاليد السردية العربية. بل أن اسم هذا النوع الادبي، الرواية، كان موجودأ بين مصطلحات الادب في تراثنا، ولم نحتج الى اختراع اسم مبتكر له.
الطريف ان جذر الرواية في اللغة العربية هو الفعل روى (سقى) ، فقط انه يجلب المعلومات بدلا من الماء في هذه الحالة. ويفترض بالراوي العربي ان يكون صادقا، سواء كان راويا دينيا ام ادبيا. اما الراوي بالمعنى الشعبي فهو الحكواتي الذي يسلي المستمعين بقصص مثل سيف بن ذي يزن، وبني هلال. ولكنه في القرن العشرين صار شخصية خيالية في العمل الادبي. مثل هذه التفاصيل وسواها كثير يسوقها المحرر وائل حسن لدحض الرأي القائل أن الرواية العربية والقصة القصيرة لا علاقة لها بالفنون النثرية السردية القديمة، او الرأي الآخر الاكثر تطرفا: أن التقاليد الادبية العربية القديمة تفتقر الى السرد النثري الخيالي. ويرى أن مثل هذه الاراء تهدف الى الانتقاص من قيمة التراث العربي انطلاقا من مركزية اوربية استعمارية، من أجل قطع اية صلة بين الماضي والحاضر باسم الحداثة.
على اية حال وبغض النظر عن مدى تطرف الرأيين المتناقضين هنا، يُتفق على أن الرواية العربية بالمعنى الحديث بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع صعود الاستعمار الكولونيالي البريطاني والفرنسي على وجه الخصوص. ومع الارساليات التبشيرية والبعثات والترجمة، مما ترك آثارا واضحة على السرديات العربية في ادب الرحلات والسير والقصّ والصحافة، التي انتجت موزائيكا رائعا بين التقنيات العربية والاوربية، في نوع من التجريب الشكلي، كان سيُحتفى به الان على انه مابعد حداثي، على حد قول المحرر. في تلك الفترة حدث نوع من الثنائية القطبية في النخبة الثقافية: الدينية من جهة والحداثية المنادية بالتطور الاوربي المتفوق حضاريا، من الاخرى، وهو ترجيع استشراقي واضح. وانعكست هذه الثنائية على النشاط الادبي، وبات تقليد الاوربيين في القصة والرواية والمسرح يعتبر غربيا وغريبا على التقاليد العربية. ومما رسخ هذا الطرح الدراسات الاكاديمية المبكرة التي ركزت على جدّة الرواية في الادب العربي وانقطاعها عن الموروث، ودخولها الى الادب العربي من خلال الترجمات في القرن التاسع عشر.
ما يهمنا هنا، وكما يبدو لي من خلال مقولات المحرر، هو ما بُني على هذه الطروحات من آراء وتقويمات نقدية بخصوص الرواية العربية قد لا تكون منصفة تماما، تلك التي تقول مثلا أن الرواية العربية عموما مازالت غير ناضجة، وأنها لابد لها أن تتخلص من التأثيرات الكلاسيكية للسرد العربي المبكر وان تكون معاصرة. أكثر من ذلك، يقول وائل حسن، ان روايات نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، يتم تجاوزها بوصفها محاولات غير موفقة في هذا النوع الادبي. كل هذه الطروحات تتم مناقثشتها وتفنيدها. كذلك تتم دراسة الكيفية التي ساهمت بها الانماط السردية العربية في نشأة الرواية الى جانب التقاليد الغربية، وكذلك اثرها في الانتاج الادبي الغربي: دانته مدين لرسالة الغفران للمعرّي، وكانت المقامة احد مصادر البيكارسك الاسباني ودون كيخوته، التي يقول مؤلفها انه اقتبسها من مخطوطة عربية، وتأثير كليلة ودمنة على لافونتين، و حي بن يقظان على دانييل ديفو في روبنسن كروسو ، وبالطبع كان لالف ليلة وليلة تأثير هائل في الآداب الاوربية والامريكية منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كثير من المثقفين يستخدم الحداثة كمرادف للأوْرَبَة، غير أن مثل هذه النماذج من الاعمال والتأثيرات تفند هذا الفهم وتدعو الى دراسة الطرق التي ظهرت بها الرواية العربية من خلال الامتزاج مع الاشكال والتقنيات الاوربية، وليس مجرد استيراد واحلال شيء محل الآخر.
يقع الدليل في ثلاثة اجزاء واثنين واربعين فصلا، ويتوزع على ثلاثة محاور، أو أبعاد كما يسميها المحرر: الاستمرارية والتقاليد والشتات. البعد الاول كما هو واضح من العنوان يعزز مقولة استمرارية الموروث السردي غير المنقطع عن الحداثة، ويدعو الى تغيير الخطاب الأكاديمي -الاستشراقي في جوهره-من خلال التركيز على عناصر الارتباط بالموروث في الرواية العربية وصولا الى وضع نظرية لا تتجاهل التاريخ، ولا تتجاهل المرأة الروائية ايضا التي غمط حقها في ذلك التاريخ. اما البعد التطوري فيكاد يأخذ مساحة الدليل جلّه، ويضع خارطة تاريخية لتجذر الرواية في الادب العربي حتى صار عددها 5700 خمسة الاف وسبعمائة رواية عام 2008، بينها 1118 للروائيات. اما الظلم الآخر الذي يعالجه الدليل فهو اعمال الروائيين الذين كتبوا بلغات اخرى غير العربية، وهذا موضوع واسع اعالجه في مقال آخر.
فضلا على ذلك يناقش الدليل دور الرواية في تكريس الدول القُطرية، وتاريخ كل رواية محلية بعد الاستقلال، وعلاقتها بالانماط الادبية الاخرى في كل بلد بعينه، وعلاقتها بآداب القوميات الاخرى: الكردية والامازيغية مثلا. واما البعد الثالث الخاص بالشتات فيأخذنا الى موضوع الهوية واللغة الذي يقودنا بدوره الى وضع تعريف للرواية العربية. مالذي يجعل رواية ما عربية: اللغة ام الموضوع ام انتماء الكاتب ام توجهه، ام بلد الاصدار ...الخ؟ كما اقترح الدليل منهجا تاريخيا بديلا لدراسة الرواية، كذلك يقترح منهجا جغرافيا بديلا لشمول الروايات متعددة اللغات والهویات المحلیة. فالدول المنفصلة واقع فرض ثقافات وهويات ، غير ان تجاوز هذا الواقع في دراسة الادب ممكنة من خلال اجتراح منهج يضم وينظم كل التفصيلات المحلية والقومية والاقليمية وبذلك يصبح الانقسام منطلقا وليس افقا للدراسة. وهو منهج ليس بعيدا عن الواقع لأن الفعاليات الادبية والثقافية العربية اخذت باستمرار منحى قوميا شاملا. فالعراقي يقرأ لكل الكتاب العرب وكذلك القارئ السوري والمغربي والخليجي ... الخ.
حقيقة الامر ان دليل اوكسفورد للتقاليد الروائية العربية مشروع ضخم منهجيا وارشيفيا ، ويستدعي وقفة أخرى لاستعراض اشكالات اعمق واوسع تتعلق باللغة مثلا ، وبالمصطلح و وبالانواع ... وغيرها. وهذا حديث آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دليل اوكسفورد للتقاليد الروائية العربية
تحرير: وائل حسن
جامعة اوكسفورد للنشر
751
صفحة، قطع كبير.

عرض مقالات: