أن تكتب عن فتاة اغتصبت بطريقة بشعة وعانت ظلم المجتمع لا يمكن إلا أن تستعير لغة خاصة ووصفًا خاصًا يناسب وعيها، وأن ترى العالم والعلاقات من خلال وعيها وفهمها البسيط، مثل تلك الشخصيات لا تحتمل البلاغة أو الأفكار المعقدة، فالرواية بمعنى ما مدوّنة البسطاء، لهذا أعتقد أن على الكاتب أن يتخلّى عن وعيه المثقف عندما يكتب، لتتمتع شخصياته بالمصداقية والعمق ولا تبدو منسلخة عن واقعها الحقيقي، نعم أعترف بأن المسألة ليست سهلة على الإطلاق، لكنها ضرورية في حالة الأدب الحقيقي والعميق.
لكن ما هو الوعي؟ وكيف تناسب الشخصية الذاتية وعيها في عالم موضوعي؟ إنّ كيفية تفكيرنا ومدى معرفتنا بطبيعة الوعي وارتباطه بالعالم الخارجي هو من يحدد ذلك في الحقيقة.
يعتقد ديفيد لودج في كتابه “الوعي والرواية” بأنّ الأدب هو سجلّ للوعي البشري، ويتعامل معظم كتّاب الخيال مع الوعي بطرق مختلفة، لكن أساسية، ومن خلال اختراع الوعي للشخصيات في الروايات يسعى الروائيون إلى نقل المشاعر الداخلية بواسطة الكلمات والتعبير عن التجربة الداخلية بطرق واقعية أو تسعى الى أن تكون واقعية وذات مغزى.
في كتابه “الوعي والرواية” يستكشف الناقد الأدبي الشهير ديفيد لودج كيفية تغير وتطور الوعي البشري بمرور الوقت، وكيف يؤثر ذلك على تجسيده في الرواية.
وحسب النظريات الغربية فإنّ الرواية استندت إلى الحركات والنشاطات الإنسانية في عصر النهضة، ويعتقد فلاسفة التنوير أن الذات حالة إنسانية مستقلة عن الجسد، بوصفها مجموعة التجارب والخلاصات والمشاعر والذكريات الحياتية التي تشكل في مجملها الأنا، وبالنسبة إلى ديكارت فإن الوعي البشري هو نقطة البداية للوجود، ومن ثم نقطة الانطلاق الرئيسة للخيال، لتصبح الرواية وسيلة لتجسيد الفكر والوعي البشريين.
لقد مكّن اختراع المطابع من توزيع الأدب على نطاق واسع وبتكلفة زهيدة، فأسهم ذلك في تحول القراءة إلى نشاط فردي خاص، مقارنة بالعروض العامّة للمسرحيات على سبيل المثال. ولعل الوعي يرتبط ارتباطًا عميقا بالكتابة الخياليّة، لأن الشخصيات هي مركز القصة، وكل شخصية من الشخصيات الروائية تندمج في حياة القارئ الداخلية الخاصّة بطريقة يحدّدها الكاتب نفسه. لكن كيف يتمكن المؤلفون من تجسيد الوعي في الشكل الأدبي؟ يستخدم دانيال ديفو، مؤلف روبنسون كروزو، على سبيل المثال، السيرة الذاتية الوهمية كوسيلة لنقل المعلومات وتجسيد العواطف، إذ تُعَد روايته بأكملها ما يشبه الاعتراف المتسلسل إلى درجة اعتقد معها الكثير من القرّاء بأنّها ليست عملًا خياليًّا على الإطلاق، بل سيرة ذاتية حقيقية. لقد اكتشف الروائيون اللاحقون أن الرواية بأكملها ليست بحاجة الى أن تُقرأ على شكل اعتراف بل وفق نمط غير مباشر يسمح للخطاب السرديّ بالتحرك بحريَّة بين صوت المؤلف وصوت الشخصية من دون الحفاظ على حدود واضحة بين الاثنين.
ووفقًا للودج فإنّ أول روائي إنكليزي اشتغل على هذه الإمكانية بالكامل كان جين أوستن التي حرصت على تجسيد السرد بواسطة الوعي. لكن يبقى تأثير الخطاب الحر غير المباشر مرهونًا بروايته من خلال وعي شخصية، وبهذه الطريقة يمتزج صوت الراوي بصوت الشخصية التي يشعر القارئ بحميميتها، وهو ما يمكن أن نصفه بإنشاء الشخصيات من خلال تمثيل أفكارها ومشاعرها الشخصية بدلا من وصفها بموضوعية، على افتراض أنّ القارئ سيستنتج البقية، لأنّه، حسب لودج دائمًا، يمتلك القدرة الفذّة اللازمة لتزويد تلك الشخصيات بالعاطفة والسلوك الأخلاقي المفقود في النصّ من خلال عالم متخيّل يستند إلى الحوار والحركات ولغة الجسد وتعبيرات الوجه والصور الموحية، لأن الوعي يرتبط ارتباطًا عميقًا بالخيال وهو الأمر الذي مهد الطريق لشعبية الروايات على مرّ الزمن.

عرض مقالات: