يصور أدب الرِّحلات ما شاهد كاتبه وما جرى له من أحداث أثناء سفره لأحد البلدان، ويُعد من أهم مصادر الدراسات الجغرافية، والتاريخية، والاجتماعية، كونه يستقي المعلومات من الخبرة المباشرة، ويندرج تحت أدب الرحلات أعمال ابن بطوطة، وماركو بولو، وتشارلز داروين، وأندريه جيد، وأرنست هيمنغواي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس؛ رغم التباين الكبير فيما كتبوا؛ إذ يجمعهم مفهوم الرحلة الزمانية، أو المكانية، أو النفسية التي تتباين من حيث أسلوب الكاتب، ومنهج الكتابة، والغرض منها، ومن هو المتلقي الذي يستهدفه الكاتب في إطار وصف رحلة يقوم بها إلى مكان ما؛ لسبب ما.

وتعد القصص الخيالية نوعاً من أدب الرحلات مثل حكايات السندباد، وحكاية ابن طفيل عن حي بن يقظان، ورسالة الغفران لأبى العلاء المعرى، وتعد الملاحم الشعرية الإنسانية الكبرى أيضاً من أدب الرحلات، مثل الأوديسة اليونانية، وجلجامش البابلية، ورحلة إيزيس لجمع رفات أوزوريس، وملحمة أبو زيد الهلالي وقد  تتبني الرحلات الأسطورية بعض الوقائع التاريخية، أو تضم شخصيات حقيقية في عصر ما، يشركها الكاتب في حكايته ثم يترك لخياله العنان؛ ليصوغ ملحمة هي خلاصة رؤية مجتمع ما لقضاياه الكبرى في مرحلة زمنية معينة.

وعرف العرب أدب الرحلات ومن أقدم نماذجه رحلة السيرافي إلى المحيط الهندي في القرن الثالث الهجري، ورحلة سلام الترجمان إلى حصون القوقاز عام 227 ه حين كلفه الخليفة العباسي الواثق بالبحث عن سدّ يأجوج ومأجوج، ورحلات المسعودي مؤلف مروج الذهب، والمقدسي صاحب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، والإدريسي الأندلسي مؤلف نزهة المشتاق في اختراق الآفاق؛ بينما تأتي رحلة البيروني عام 440 ه المسماة "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" نموذجاً فذاً، تجاوز الدراسة الجغرافية والتاريخية إلى دراسة ثقافات مجتمعات الهند بلغاتها وعقائدها.

ويعد القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي من أكثر القرون إنتاجاً لأدب الرحلات العربية التي تضمنت رحلة ابن جبير الأندلسي، ورحلات كاتب "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار "ابن بطوطة أعظم رحالة المسلمين عام 725 ه. ثم استمر أدب الرحلات متبايناً في فعالياته حتى أصبح شكلاً أدبياً أكثر منه دراسة تاريخية وجغرافية حيّة كما كان، ولعل أبرز نماذجه في القرن التاسع عشر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة رافع الطهطاوي، وكتاب أحمد فارس الشدياق "الواسطة في أحوال مالطة".

وتضم الرواية العربية الحديثة بعضاً من كتب الرحلات كحكاية أمين الريحاني التي أسماها الريحانيات، ورحلات السندباد العصري حسين فوزي، وزهرة العمر لتوفيق الحكيم؛ كما عرف أدب الرحلات –الرحلات الحجازية- كالرحلة الحجازية للبتانوني، ورحلة شكيب أرسلان "الارتسامات اللِّطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف" لكن تراجع أدب الرحلات عما كان عليه حتى أوائل القرن العشرين رغم التغيرات التي جعلت السفر جزءاً من الحياة العادية، حيث يرى البعض أن أدب الرحلة جنس أدبي قديم لا يرقى لمصاف الأجناس الأخرى وأنه جنس هجين، تتنوع فيه أساليب الحكي، وتمتزج فيه الحقيقة بالخيال وتتداخل فيه الذاتية بالرؤية الموضوعية؛ حتى اعادت نظريات السرد الحديث لهذا الجنس الأدبي اعتباره كونه يعبر عن تطور المعرفة الإنسانية في مجالات متعددة، تجمع بين حقول معرفية مختلفة كالتاريخ، والجغرافيا، والأنثروبولوجيا والاجتماع في أشكال تعبير جمالية لها قوتها وجاذبيتها السردية، ولعل تراجع أدب الرحلات يعود الى حرمان المسافر من تجربة الرحلة الحقيقية بما فيها من عمق، وإثارة، واكتشاف.

يقدم لنا حسن البحار تجربة سياحته البحرية في نوفيلا أنيقة استفاد الكاتب من خبرته العلمية والمهنية في تقديم هذا النوع من الكتابة الإبداعية، فنحن أمام أدب رحلات مغاير هو أدب بحار معاصر حيث محور اهتمام الكاتب وسرده هو التجربة الإنسانية، التي تعبر عن الحالات المتباينة التي يمر بها سواء كانت تجارب عاطفية، أو إنسانية، فيحدثنا عن رحلته لإندونيسيا، ورسوه في كازينو ريتا (رستوريتا) ليلتقي بريتا المرأة التي سحرت وجدانه، واستنطقت مشاعره في نموذج من نماذج استرجاع الزمن الماضي Flashbackلذكرياته مراهقاً مع الجارة لولو التي ألهبت رغبته دون أن تدرك أنها تغتال براءته، ثم مشهد زمكاني آخر يتذكر فيه إعرابه عن حبه لهيلين وما حدث له جراء اعتراف ساذج، ليكون شاهداً على شخصية البطل الذي هو سارد ذاتي مشارك، يكاد يتحدث عن ذكريات من سيرة ذاتية، صانعاً زماكناً سردياً بسيطاً، ليتوالى السرد بعد ذلك رابطاً المشاعر بأحداث السفر في الأمكنة عبر زمن متسلسل.

يمتلك الكاتب لغة عربية فصيحة متميزة بخصوصية في بناء الجملة على الرغم من كسر بعض قواعد البناء التقليدي للجملة العربية، واستخدام مفردات يستدعيها من قاموس اللغة البعيد؛ إلا أنها ليست ألفاظاً ميتة، وتقل الأخطاء الإملائية والنحوية بشكل كبير ويبدو أغلبها كأخطاء طباعية، وليست من متن السرد.

العنوان (بحر أزرق... قمر أبيض) يحمل اسماً يوحي بشكل ما بعلاقة السرد بالبحر كمكان؛ إلا أن العنوان لا يحمل أية دلالة سيميائية، أو إثارة تشد الانتباه توحي بمعنى مباشر أو غير مباشر عن حكاية السرد الرومانسية، فكل الناس تعلم أن البحر أزرق وأن القمر أبيض منير، ولا يحمل الجمع بين البحر والقمر أية دلالة، فربما لو أشار العنوان مثلاً للشمس والبحر، لأصبح للعنوان دلالة سيميائية تعتمد على علم النفس الفرويدي.

يقع السرد في زمن رحلة بحرية، ويأخذ الشكل الكرونولوجي الطبيعي البسيط، فينتقل في الزمن مع انتقاله بين الأماكن في نسق بسيط غير متشظ ولا معقد، ولا يتسبب في إرباك للمتلقي الذي يتابع الأحداث في أزمنة وأمكنة طبيعية بلا مشقة أو مجهود ذهني.

المكان 

تدور أحداث السرد في عدة أماكن أولها السفينة التي يعمل عليها بطل السرد وهي مكان متحرك غير ثابت أو ساكن، والثاني أمكنة عديدة تمثل انتقالات هذا المكان المتحرك التي تبدأ في ميناء (دوماي) الإندونيسي، ثم سنغافورة التي يفشل في إقامة علاقة فيها، ليسافر وسط المحيط الهندي ليحط في سريلانكا لتستمر حركته بعد ذلك حتى يعود بالطائرة الى دوماي مكان بدء الحكاية في حركة دائرية.

شخصيات السرد الأساسية محدودة أبرزها بطل السرد المسمى (سي) حيث يختزل الكاتب الشخصية في رمز لغوي متأسياً بـ (مستر كاف) بطل فرانز كافكا في المحاكمة، فيشير اختيار الرمز (سي) لدلالة سيميائية توحي بسيادة الشخصية حيث (سي) كلمة دارجة في غالبية اللهجات العربية تشي بمعنى السيد.

ويتناول البطل -الذي هو نفسه السارد المشارك العليم-حادثة حياتية من حوادث حياته وتجارب عمله الخاصة، مُجتزئاً مساحة من تاريخ سيرته الذاتية، ليبوح عبرها عن جزء من تاريخه الشخصي بأساليب سرد متنوعة أبرزها المونولوج، وليحكي عن عواطفه، والعمة الشخصية المؤثرة في حياته وشخصية المعشوقة امرأة الموانئ الأرملة ريتا، وأنطوان سائق الدراجة البخارية الأمين الذي يقوم على خدمته طوال علاقته بريتا.

أما الشخصيات الثانوية فهي شخصيات محدودة غير بينة الملامح السردية، يتجسد وجودها عبر حوادث تبرر ظهورها السردي.

 ينبني البناء السردي على سلسلة أحداث ناتجة عن مشاعر بحار كان فتى غريراً، يعاني حباً عذرياً، يبدو مراهقة عاطفية متأخرة لرستوريتا امرأة الموانئ الأرملة؛ الأكبر منه عمراً ومحملة بخبرات اللقاء الدائم بالبحارة الذين لا يحملون إلا أشواقاً للمتع الحسية المباشرة، فتصيبها صاعقة مشاعره البكر، فيتراوح سلوكها ما بين القبول ومحاولة الهروب من هذه المشاعر الفياضة التي غمرتها، فأدهشتها وأربكتها، وتمتد الأحداث السردية ليصف لنا البطل حدة مشاعره وكيف يقاومها بالغرق في العمل، ليصف بمهارة تفاصيل مهامه كمهندس محترف لصيانة السفن أثناء حالة طوارئ،  حيث يواجه البحارة والسفن أسوأ مخاوفهم، ويتواصل في سريلانكا مع ريتا ويطلب منها الزواج، ويشرح لها خططه التي توافق عليها لينتقل الى اماكن مختلفة وصولاً الى جنوا الإيطالية بما فيها من مظاهر حياة غربية متحررة وكيف يهرب من رغباته التي كونتها مهنة البحار ليعلن فيه وصوله الى دوماي وتخيله لمستقبله في نهاية مفتوحة.

يستخدم الكاتب تقنية الراوي المشارك العليم بالأحداث ليقدم التبرير السردي للحكاية، مستخدماً لغة الوصف للأماكن الجغرافية -بالذات للبطل المضطر للتجول في الزمان والمكان-ورغم تواصل الوصف الجغرافي لرجل خبر البحر، يقع الكاتب في خطأ جغرافي غير مبرر في نهاية رحلته بالبحر المتوسط -ليس البحر الأبيض المتوسط Mediterranean sea- حيث يقول في (فصل الساعة الخامسة ص 56): "ولأيام صار قبالتنا مضيق جبل طارق لتكون على ميمنة سفينتنا مدينة إشبيلية الإسبانية، وعلى ميسرتها مدينة فاس المغربية." وهذا خطأ لأن المدن المغربية الواقعة على المضيق هي طنجة، وتطوان، وتستحيل رؤية مدينة فاس التي تقع جنوب طنجة بمسافة كبيرة تقع فيها مقاطعات شفشاون، وتاونات، والقنيطرة؛ كما تقع مدينة قادس على ساحل إسبانيا، وأمامها جزيرة سبتة المتنازع عليها، وتقع إشبيلية الإسبانية شمالهما ولها شاطئ محدود، تصعب رؤيته من البحر المتوسط، أو المحيط الأطلنطي، فيبدو أن الكاتب اعتمد على معرفته بتاريخ الأندلس حيث كانت إشبيلية مساحة جغرافية مغايرة.

الأبعاد السيكولوجية

 تتفاوت الحالة المزاجية لبطل السرد المهندس (سي) ما بين الرضا والابتهاج كما لو كانت حالته المزاجية توأماً للبحر تتناوب الرضا والثورة نتيجة المشاعر العاطفية المتوهجة، والاكتئاب الناتج عن ضياع الزمن بعيداً عن معشوقته، والذي ينعكس على سلوكه تجاه فريق العاملين معه كما حدث في أثناء عاصفة البسكاي في طريق الوصول إلى ميناء أنتويرب البلجيكي حتى أن انفعاله العصبي نتيجة التوتر يؤدي إلى سقوطه من فوق درج وإصابته فتفيقه الإصابة من حالة التشنج العاطفي التي يمر بها فيعتذر لفريق العمل وصولا الى نهاية مفتوحة.