قبل أكثر من ربع قرن صرختُ في إحدى قصائدي (عذبتني.. غربتي أمّاه في هذا الوطن) وكأن صرختي هذه هي صرخات جميع إخواني الشعراء المكتوين بنار الغربة داخل أوطانهم، ونحن العراقيين أكثرهم اكتواءً، حين التقيت صديقي الشاعر (ئاوات حسن أمين) لمحت في عينيه هذه الصرخة، وما أن قرأت ديوانه الشعري ((مملكة ما وراء خط الاستواء)) حتى تأكدت من ذلك فالقصائد التي توزعت على أكثر من (216 صفحة) كلها تتحدث عن الغربة، والغربة الداخلية أدهى وأمرّ، إذ أن الشعراء العراقيين صاروا غرباء داخل عراقهم بفعل التهميش والقهر والمطاردات والسجون والقتل في ظل نظام دكتاتوري فاشي.
(
أتدري لماذا يغتاظون من شعري ؟! لأنني أنشدت الشعر لطفل ٍ.. يقضي معظم نهاره/ ملهوفاً في البحث وراء قطعة رغيف وفي الليل.. يخمد رأسه لينام.. على رصيف من أرصفة المدينة !..) ص49
ولهذا تجده يؤكد أنه من رحم الهموم أتى حاملاً أوجاع الكون ومسافراً دونما وطن :
(
يا صاحبتي.. أنا قد ولدت في حضن الهموم وقد أودعت حياتي في الضباب) ص51
وعليه سيظل يذكر الغربة والتغرّب في كل قصيدة لأنها واقصد الغربة طبعاً تعيش معه، بل تعيش فيه أنّى يكون، وهذه الحالة هي أفظع الحالات حيث تتركه ضائعاً في خضمِّ هواجس شتى لا أنيس له سوى الموت أو الرغبة فيه :ـ
(
لا تتركيني، كي لا يصبح / شبح الموت في ليل وحدتي / أنيس قصيدتي اليتيمة..!!). ص 52
ويظل يحاور نفسه، ويناجي أمّه متعكزاً على ذكريات طفولته، وهذا دليل قاطع على أنه يحنُّ إلى تلك الأيام التي كان بها حراً طليقاً يقفز من صخرة إلى صخرة ومن غصن إلى غصن كالعصفور.
(
أماه.... أماه ليس بعيداً أتذكر طفولتي جداً) ص54
أن ذكريات الطفولة قد هيمنت بشكل كبير على جلّ قصائده، إذ لا تخلو واحدة من ذكرها أبداً وبأشكال شتى، بالأخص في قصائد الديوان الأولى التي تعتبر بدايات أو بالأحرى ذات وقع يختلف عن قصائد الديوان الأخرى وكما يلي من (ص45 ص 126) والتي تعد منتصف الديوان حيث تتحول القصائد إلى منحى آخر ابتداءً من ص127 رغم أننا نجد هنا وهناك استذكاراً للطفولة أو الأيام الخوالي وتذكيراً بالغربة في بعض الأحيان ما حدا بنا إلى التأكد من أن حالة الاغتراب واستذكارات الطفولة من أهمها وهي التسمية المؤثرة في الديوان أو المهيمنة على ذهن الشاعر ككل.
(
هو ذا.. كعادته وحيداً / في حوزته اسطوانة الذكريات!) ص98
(
بينما في أرضي المحروقة / لم تتفتح بها زهرة، ولم يحيا / برعم أصفر.. من ذكرياتي) ص153
(
شاعر، أتى إلي على مائدة الذكريات هذه) ص168
في كل مرة يردد كلمة (الذكريات) وكــــــــذلك (المنفى) و(الغربة) و(العودة إلى الوطن) و(الضياع) و(الحنين) و(أيام الصبا والطفولة)... إلخ.
وجميعها تدل على انه يبكي الغربة داخل الوطن. فعندما يسافر مثلاً يستذكر وطنه ولكن بشكل آخر:
(
أتساءل في حضورك الزاخر بالنور
أصباياي المؤنفلات هنا......) ص207
كما تجده يؤكد في كل قصيدة على هذه الغربة أيضاً وكأي شاعر من الشعراء الكرد يستذكر مأساة حلبجة التي أصبحت مأساة الإنسانية كلها، وأخذ الشعراء الإنسانيون في كل مكان يذكرونها، إلاّ إنها بالنسبة للكرد شيء آخر :
(
قرأت التأريخ.. للمرة الثانية / متأنياً انظر إلى... / الحرب العالمية الأولى والثانية / الآن.. عندما أتسلق (شنروى) / تتبعني خمسة آلاف ورقة متساقطة / وخمسة آلاف روح طائرة / أنسج منها قصيدة غاضبة..!!) ص79 (لملم أوراقك وعد إلى الوطن.. المثقل بالجراحات) ص84
فحلبجة هي الألم الذي يعتصر ذاكرة الإنسانية جمعاء، كيف إذا كانت ذاكرة شاعر إنساني ينتمي إلى الكرد قومياً..
آوات حسن أمين... شاعر يعاني محنة الغربة داخل الوطن، كما ويعاني الحنين إليه أيضاً، إلى الأيام الخوالي التي اختزنتها الذاكرة، بالإضافة إلى احتفائه بأشيائه الصغيرة كلما التقى شاعراً آخر أو أراد أن يهديه قصيدة ما..
عبر (52) قصيدة رحنا مع الشاعر في رحلة أضنتنا بأنينها وحنينها وبوحها المستفيض رغم إنني أعيب عليه بعض الأخطاء النحوية واللغوية وهذا يعود إلى الترجمة، كان بإمكانه أن يعطيها إلى أحد الأدباء العرب لمراجعتها، كما أن الطباعة لم تراجع أبداً، وهاتان خلتان ممكن تلافيهما في الدواوين اللاحقة طبعاً.. حقيقة أظل في دهشتي التي انتابتني أثناء قراءتي الديوان من ألم الغربة التي كان يشعر بها الشاعر آوات حسن أمين، إنها محنة إنسانية كبيرة إذا كنت غريباً في وطنك.. وهذا ما يؤكده عنوان الديوان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
مملكة ما وراء خط الاستواء / شعر آوات حسن أمين / إصدار دار الينابيع 2009
****************

زرقتك هي زرقة السماء


شعر :ئاوات حسن أمين
ترجمة : لطيف هلمت

ممتد
على ارض الكنانة
كقطرة ماء
على جسد حورية
تسيل
ولكن على عكس مهب الريح
من الجنوب الى الشمال
. . .
نيل انأى دواء
لقروح الارض
اطول انهار الهيام
ماذا تعمل ؟
ان لم تمطر اشجار الارز بالقبلات
ماذا تعمل ؟
سوى ان تسيل في البحر
اه يا حواجب الفراعنة الزاهية
في وجه عوامات شواطئك
يمتد تأريخ
مفعم بالعناق
نيل لقد رشفت الصبايا
من مياهك
لهذا تحلت ملامحهن بالجمال
وحين ينسلن امام ناظري
يمطرن ارضي المحروقة
بالقصائد
نيل زرقتك زرقة السماء
ومذاقك مذاق خضرة الله
سلاما يارمسيس سلاما
جئتك من قمم الجبال
اتساءل في حضورك الزاخر بالنور
أصباياي المؤنفلات هنا ...؟
ام أصبحن جواري أمام ابي الهول
يعتريني شك بأن
تلك الصبية الجالسة قبالتي
هي ريحانة _ طرمياني_
زرقتك زرقة السماء
وهمومك
هموم الانسان الكادح
رويدا
رويدا
اخترق تأريخك
واستفسر عن ابناء نجيب محفوظ
وخان الخليلي
وميدان الكوبري
وطلعت حرب
واخبار السباعي عن باب الحديد
واتمجد امام اهراماتك
. . .
ارضك جزء من الامتداد الالهي
تأريخك هو الولوج في ازمان الكون
ها أناذا هنا
اتلفع طربوشا
وأصبح _ بيكا _
جئتك حاملا معي _ يشماغا _
الفها على رقبة علي بدرخان
جئتك لألقي تحية على القصر الذي
كانت سندريلا ترقص فيه
. . .
أنا لا ارتوي
من احتضان قامتك
ولكني محكوم بالشعر
والعودة الى
موطن ( كولَعمر )*
ودوما يضل ذكراك
كتابا زاخرا بالموهبة
اه يا نيل
زرقتك هي زرقة السماء
ومذاقك مذاق خضرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولعمر: هو الاسم السابق لهضبة شارة زوور ومحافظة السليمانية.