أهذه المدينة المحطمة مدينتنا، أهذه بغداد، ام انني ظللت اليها السبيل؟

تقول فرجينيا وولف في كتابها (غرفة تخص المرء وحده): "إن المرأة حين تكتب تفكر عبر أمهاتها..". ولعل هذا هو ما يمنح المرأة الشجاعة لأن تغادر صورتها التي رسمتها لها أنساق المنظومة الأبوية ككيان ثانوي بلا صوت ولا إرادة، معلنة عن نفسها وقد انتفضت ضد الكبت ورفضت كل صور الاقصاء والمصادرة، فضحا للتقاليد البالية والعادات المتهرئة التي تجور على المرأة، وتنتقص من قيمتها الانسانية.
والسرد خير وسيلة كتابية بها تستطيع الكاتبة أن تصنع شخصيات نسوية فاعلة، فتهيمن واحدة منها على السرد متكلمة بضمير الأنا غير محتاجة إلى من يتولى عنها البوح والمكاشفة، توكيدًا لمركزية فعلها الانثوي بوصفها الذات الماسكة لزمام السرد، والكينونة المالكة لمقدرات مسروداتها رجالا ونساء.
وفي رواية (سيدات زحل) للروائية لطفية الدليمي يتمركز الصوت المؤنث فاعلا سرديا، جاعلا منها روايةً نسويةً فيها حياة البابلي هي الساردة والبطلة التي عليها أن تجد نفسها من بين شخصياتها وقد تحلت بالفاعلية وقاومت تشوش الذاكرة، متسمة بالشجاعة التي بها أعطت لنفسها الاولوية في المبادرة. ولعل أهم علامات شجاعتها توظيف التساؤلات انثيالا وتداعيا، معبرة من خلالها عن انتفاضها على الواقع العاجّ بلهيب الحرب والاحتلال والموت، محاولةً بذلك ردم الهفوات وازاحة العقبات وكشف الخفايا؛ لعلها تضع الامور في نصابها أو على الاقل تستطيع أن تحسِّن مجرى الحياة متمكنة من فهمها.
ويأتي التساؤل بصيغ مختلفة فمرة يكون شكاً في العالم ومرة ثانية يكون تهكما من الموجودات وثالثة يكون بحثا عن تعليل عقلي لما يحدث من امور غير منطقية، وتفتتح الرواية بالتساؤل شكًا "أ أنا حياة البابلي؟ أم أني أخرى؟ ومن تكون آسيا كنعان التي أحمل جواز سفرها؟" ثم تتوالى التساؤلات الباحثة عن إجابات داخل ذاكرة تداعت بسبب مرارة الواقع، حتى ما عادت قادرة على فك ألغاز فوضويته أو الوقوف على حقيقة تداعياته وآلامه. وبالاستمرار في طرح الاسئلة تتوغل الساردة في تفاصيل اليوم العراقي أكثر فأكثر، راصدة أدق جزئياته ومسجلة أعمق لحظاته بغية فهم تناقضاته وإدراك حقيقة وضعها فيه.
وما بين تداعي الاسئلة وتشوش الذاكرة مفارقة فنية، بها يتصاعد السرد ايجابيا بالنسبة للحيوات النسوية وقد ازدادت قوة وشكيمة بينما يكون تصاعده سلبيا بالنسبة للشخصيات الذكورية التي ضاعت فاعليتها موتا واهانة واستسلاما. وما مقصدية البطلة في المجابهة بدل الاستسلام والاصرار على الحياة بدل الاستكانة للموت؛ وتوكيد هيمنة الأنثوية وتجسيد هامشية الذكورية وربما تلاشيها. وليس وراء اثبات هذه الهامشية رغبة ذاتية في مصادرة وجودها واقصائها تصحيحا لمعادلة حياتية تقلب المركز هامشا؛ بل هو القدر الذي حتّم على الانثوية أن تؤدي أدوارًا جديدة لم تكن الذكورية قد منحتها لها قبلا نبذا أو ثأرا. وفي هذه الحتمية نوع من المراهنة التاريخية بمدى قدرة الأنثوية على تحمل اعباء الذكورية لتكون جديرة بالمركزية وبطريقة تشاركية فيها النسوية هي الأمل الذي سيسترد الرجولة من ضياعها ويلملم تبعثرها.
ولعل هذا ما جعل الكاتبة تدعم عنوان روايتها (سيدات زحل) بوصف نوعي هو (سيرة ناس ومدينة) وقد اتخذ متنها شكل سيرة ذاتية فيها مذكرات تتشظى فيها الاسماء والتواريخ والاوراق والهوامش والكراسات من 2003 الى 2008. والغاية أن تسترد البطلة ذاكرتها التي فيها اسمها وهويتها التي بها تتخلص من التباسات وعيها المحتشد بالحروب والرجال والموت.
وما استباحة المكان/ بغداد بالاحتلال، وطيف رجال كانوا فتناءوا بعيدا، وفراغ جسد وسراديب خوف وكوابيس اختفاء، سوى تصورات شوهت ذاكرة حياة البابلي. فما كان أمامها وهي على مشارف الاربعين إلا أن تدون سيرتها لعلها بالكتابة تداري ما يتهددها من النسيان مستعينة بكل ما يُبقي الذاكرة حية من رسائل بريدية وايميلات الكترونية وأوراق وكراسات، بها تراوغ ذاتها التي صارت تراها في الشوارع المحروقة والحيوات المهزومة والامكنة المسلوبة التي تنز دما وألما حتى شجرة السدر (سمعتُها تنشج وتهتز تحت قدمي أشجار السدر تتنهد في حدائقنا وتنوح كعادتها في الليل. السدرة شريكتنا في الحزن والشجن) الرواية، ص11.
ما بين اضطراب الذاكرة وجموح المخيلة تنتقل حياة البابلي بين البيت والسرداب خائفة من موت يترقبها في شكل رجال ملتحين يحومون حول بيتها. ويتحول تداعي الذاكرة المهددة بالنسيان الى هذيان، حتى صار هذا الهذيان رفيقها، فضاع منها اسمها (بدأت أهذي، عبارات ترصعها الاسماء عشرات الاسماء تساقطت من بين شفتي وأنا أهذي.. هل بوسع اسم واحد أن يجلو الذاكرة ويحييها؟) الرواية، ص121.
وعلى الرغم من أن الشر يتربص بها وأن ذاكرتها تخاتلها وتخونها؛ فأن ظهور الشيخ قيدار كأمل يبزغ في خضم تداعي الاسئلة واستنهاض الذاكرة، هو الذي يبقيها مهيمنة على خوفها بالحب مواجهة دوامة الالتباس والفقدان بالحضور، مدركة أنّ الحب والحرب هما سر محنتها، فتتساءل تساؤلات وجودية من قبيل قولها: (هل يعرف الآخرون من نكون حين نجهل ذواتنا؟ أيمكن أن يعرفنا الآخرون أفضل مما نعرف انفسنا؟) الرواية، ص16.
ومن هنا تقرر ترك الاسماء والتشبث بالحكايات التي فيها تتبنى الدفاع عن بنات جنسها، محوّلة السرداب إلى عالم نسوي، هن صديقاتها (هالة ولمى ومنار وبهيجة التميمي وفتنة وزبيدة التميمية ومس بيل وهالة وأمل ابنة الحاج ياسين الخضيري والصحفية برسكا برنار) ولا فرق بين أن يكون زمانهن قريبا أو بعيدا، لأن عدوهن واحد، تمثله مليشيات رجال ملتحين يخطفون ثم يساومون ويهددون ثم ينفذون ويرشون الطلاء الاسود على رأس التي لا تلبس حجابا (لا يصمدون أمام شعر أنثى يسيل لعابهم وشهوتهم) الرواية، ص67.
ولان حياة البابلي هي المهيمنة سرديا، لذلك تتولى سرد قصص صديقاتها معتمدة على ذاكرة الحكايات التي أودعنها لديها (أنا حفيدة زبيدة التميمية التي حلت ذاكرتها في رأسي وفاضت الي ام تراني انا زبيدة ذاتها.. كنت زبيدة التميمية وكان هو ناجي الراشدي) الرواية، ص21.
وما بين خارج كله ذبح ورصاص، وداخل مليء بالمتاهات والخيبات، تتعزز سلبية الذكورة وتتوكد فاعلية الانوثة ويتحول السرداب الى رؤيا نسوية للعالم ترى الذكورة وقد غدت تاريخا صودر بالاعدام والاعتقال والهجرة والقطع والبتر (كل رجالنا محض صور في الذاكرة أو أطياف في حلم) الرواية، ص68، بينما تجد على السطح مدينة اختفت من أمكنتها العلامات والاسماء بسبب ذكورة مشوهة لا تاريخ لها ولا وجدان، تتوسم باللحى والهالات القاتمة، فتتساءل متهكمة (أهذه المدينة المحطمة مدينتنا أهذه بغداد أم أنني ظللت السبيل إليها؟) وبهذا الكشف لرؤيا العالم النسوية تتعزز هيمنة حياة البابلي كساردة كما تتوكد قدرتها كامرأة في بلوغ الامل باستعادة المدينة من رجولة الامس الضائعة ورجولة الحاضر المضاعة. وقد تفنّدت أمام إرادتها مقولة إن (المرأة لا تحسن الكلام عن ذاتها) لأن المرأة ما عادت صنيعة الآخر. إنها الآن صانعة الكلام التي تعرف كيف تفيد من ذاكرتها في كتابة تاريخ نسوي، فيه وجودها الذي به تتوكد كينونتها. وهذا هو لبُّ ما تريده أدبيات النسوية من المرأة التي تعرف أنّ عليها أنْ لا تكون مستضعفة؛ بل هي قوة تتكلم، تماما كالآخر الذي لم يعد رقيبا ولا ندًا، بل مشاركًا لا يتوانى من الاقرار بحقيقة صميمية وهي أنّ نضال المرأة من أجل حريتها هو الذي يمنحها وجودًا، ويجعل صوتها صادحًا بالتغيير والتنوير.
ومؤدى القول إنَّ هذا التمثيل السردي لفاعلية المؤنث في الهيمنة ومركزية الرؤيا النسوية للعالم في الاستشراف والمكاشفة، هو تدليل بيّن على أفق ابداعي، فيه تستطيع السردية النسوية العربية حيازة موطئ قدم لها في عالم الكتابة الروائية ما بعد التنويرية.

عرض مقالات: