تجربتي في روايتي الجديدة "سيرة الفراشة" اختلافًا نسبيًا عن النهج الذي اعتمدته في روايتيّ السابقتين "خان الشّابندر" و"بيت السودان"، لجهة الابتعاد قليلًا عن الموضوعة العراقية المغرقة في المحلية والمعالجة القائمة على استلهام المتغيرات والهّزات العميقة التي حصلت للمجتمع العراقي. فقد قُدر لي أن أعيش تجربة مضنية مليئة بالقلق والخوف والجفول في مدينة حلب المدمرة الخالية من أهلها ولم يسكنها سوى الأشباح، وذلك ضمن مهمة صحفية شاقّة لصالح التلفزيون الهولندي قبل سنوات.
لقد غيّرت تلك الرحلة التي لم تستغرق سوى عشرة أيّام، نظرتي الى ضحايا الحرب وتدمير المدن تحديدًا، ففي الشقة شبه المدمرة التي كنت أقطن فيها عشت حياة متقشفة للغاية، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا طعام بالمعنى الحقيقي. كان الخوف والظلام يخيمان على المدينة، وبين نوبات القصف المتقطّعة، يخطف طائر ما مذعورًا من هنا أو قطة مرعوبة من هناك. وفي خضم وحدتي تلك، رحت أراقب سيِّدة في الشقة المقابلة، كانت تظهر في فترات محددة وسط الستائر المهوّمة في الريح، أحيانًا تحتسي قهوتها في الشرفة وأحيانًا تدخن بهدوء لا يتناسب وواقع المدينة الموحش، وفي أيّام أخرى كانت ترمي أشياء لم استطع تبيان ماهيتها من مكاني، لكلب مشرد في الشارع ليأكلها، وفي لحظات خاطفة، تبينت أنّ تلك الأشياء الصغيرة التي ترميها ما هي سوى عصافير ميّتة. عصافير رماديَّة صغيرة جدًّا اختارت شرفتها لسبب لا أعرفه، لتموت فيها.
لقد الهمتني تلك المرأة الشابّة الغامضة التي لم استطع أن التقيها للأسف، بعد ان اختفت بشكل مفاجئ، ألهمتني فكرة روايتي "سيرة الفراشة"، إذ كانت ثمّة فراشة بأجنحة صفراء ودوائر سود تشبه العيون تظهر بين الحين والآخر وتحلّق في فضاء الشارع الفاصل بين شقّتينا، لكنّها اختفت هي الأخرى مع اختفاء تلك المرأة، فكان عليّ تكملة سيرتها الموجعة في سديم من الخيال، حيث تسافر تلك المرأة ـ الفراشة بعيدًا عبر البلدان والمفازات والحروب وغياهب التهريب، وصولًا إلى هولندا، بحثًا عن حبيبها أو زوجها الغائب، ثم تعود خائبة إلى حلب المدمّرة وشقتها الموحشة وسط الأشباح وتهويماتها والعصافير الميّتة وغموضها، لتنتظر عبدالله، الذي يمثل الأمل المستحيل بالنسبة للمرأة العربية الممتلكة لوعيها. عبد الله المفزوع بدوره والمخربة روحه الذي يحاول التخلص من كابوس اشتغاله مع رجال الدولة الإسلامية. وفي المحصلة، وسواء يأتي عبد الله هذا أم لم يأتِ، تنتهي الرواية في تجسيد سيرة تلك المرأة ـ الفراشة وما جرى لها في رحلتها من ظّلام الحرب والغياب إلى نّور السلام والأمن ثم إلى الظّلام ثانية، بكل ما فيها من قلقٍ ومخاوف واحباطات وتضحيات مهولة. وكلي أمل في أن أكون قد وفقت في تجسيد محنة المرأة العربية وانكسارها تحت وطأة الحرب، ومقاومتها وعدم تحطّم روحها تمامًا وتمسكها بالأمل غير المؤكد.
إن ما أردت قوله في هذه الرواية، هو أن محنة أجيالنا المعاصرة من الطبقات الوسطى المثقفة التي جرى تغييبها وجوديًا، تتجسد في اجبارها على الهجرة أو قمعها في الداخل والحيلولة دون مواصلتها مشروعها الثقافي وتحقيق ذاتها، وطبقة أخرى مغلوبة على أمرها ومغيبة الوعي تتنازعها الأفكار السود والمفاهيم الشريرة وتحولها إلى أدوات تدمير شامل للمجتمعات ولكل ما هو مسالم وصادق ونبيل. وبما أن الرواية، كفن خالص عندي، لا تحتمل توصيل الرسائل والتنبؤات، فإنّ إدامة هذا النوع من الخيال ربّما يكون قادرًا على طرح الأسئلة وقراءة المستقبل والتأكد مما إذا كان ذلك الأمل الذي نتشبث به في تلك اللحظات النادرة من التاريخ، خديعة أم وحياً أملته علينا طبيعتنا الإنسانية التواقة لليقين.

عرض مقالات: