1.

في إشارة سريعة سأخلص الى الفرق بين المثقف والأكاديمي، فإن الأكاديمي هو الباحث العلمي بمنهجيات ثابتة وصارمة، [وهو] يعمل في مؤسسة أكاديمية ما ويمارس مهنته داخل أسوارها. اما المثقف فهو ناقدٌ يحدِّد، ويحلِّل، ويعمل على المساهمة في طرح أسئلة خارج المنظومة الجامدة ومغايرة لأجوبتها، كما أنه يمثِّل قوَّة متحرِّكة، ومن خلالها تتأتى له القدرة على تطوير بعض من الأفكار والمفاهيم، فضلا عن انتاج أسئلة جديدة.

وفي هذه الإشارة الموجزة سيشتركان في مشروع واحد، يتطلب من المثقف مسؤولية تحريك المتخيل وخلق المفاهيم والتصورات، بينما الأكاديمي سيعنى بتأسيس المنهج العلمي والبحث الدقيق عن الحقائق.

في العراق، تقتصر مهمة الاكاديمي على تقديم معلومات محددة تختزنها الكتب مبتعداً عن الاندماج في واقع اليوم العراقي، وسبب ذلك كما أظن تبعية الموظفين ومنهم الأساتذة والتدريسين لوسائل القسر والإجبار، فهو أي الأكاديمي يشعر بأنه ممتن للمؤسسة الحكومية على الدعم المادي المترف نسبياً وبذلك يفقد قدرته على السباحة ضد التيار.

ومن هذه العلاقة الملتبسة بين الأكاديمي والمؤسسة الاكاديمية نجد إنه قد حاز صفة الصنمية في التعاطي مع مجتمعه، فمنذ سنوات والمجتمع العراقي يخرج في تظاهرات كبيرة أو صغيرة نؤشر غيابا واضحاً للأكاديميين العراقيين عن مناصرة هذا الحراك بصورة جادة أو حتى خجولة. مع ضرورة أن نؤشر فعاليات بعض الشخصيات الثقافية – الاكاديمية (وهي هنا استثناء طبعا)

والاكاديمي همه الارتقاء ب (C . V ) من خلال أي مشاركة متاحة دون النظر لما تقدمه مساهمته في الفضاء الفكري والمعرفي.  واعتقد أن نظام الترقيات العلمية بات يشبه نظام العلاوات والترفيعات في المؤسسات الاخرى من ناحية أنه يحقق زيادة في الدخل المادي جعلت الاكاديمي يحوز صفة الفوقية.

2.

مفهوم الأكاديمي قد يكون واضحاً (( فهو كل من تحصل على شهادة من أكاديمية [عليا] علمية أو أدبية )) ولكن مفهوم المثقف ملتبس كثيراً فليس كل متعلم هو مثقف وليس كل مبدع هو مثقف أيضا، وما يهمني هنا هو المثقف الذي ينكص عن المطاولة في مشروعه العضوي أو يتذرع منذ البداية بمقولة ((لا ولكن)) ، وهنا لابد من الاستئناس برأي سارتر في الفصل بين المثقف النقدي الذي ((يعاين الوقائع ويفصل بين الزيف والحقيقة))  وبين المثقف غير النقدي المتعالي والصنمي، وهذا ما نجده في مجتمعاتنا بحكم التغيرات السياسية التي تستأصل سواها دائماً .

هؤلاء الأحاديين لا انتماء لهم إلّا لمصالحهم الشخصية التي قد تكون داخل البلد أو مرتبطة بمصالح خارجه.

المثقف غير النقدي يعكس خيبة أمل الشارع ببساطة شديدة فهو وجه صارخ لبناء دولة أقل انسانية وأقل عقلانية.

فما تحتاجه الإنسانية هو المثقف الذي ينتج الثقافة وليس الذي يستهلكها أو يجعلها سلعة تباع وتشترى.

ومن هنا أستطيع أن استشهد بقول عبد الاله الصائغ" إن المثقف الحقيقي أو المثقف المنتج من له منجز مغاير في الزمن السيئ".

3.

ساهمت العقلية العراقية بقطيعة معرفية بين المثقف والأكاديمي من خلال مبدأ الاستئصال السياسي الذي دسَّ أنفه في دائرة الفنون والآداب (الحقل المعرفي للمثقف) وهذه النزعة عمقت الفجوة ومنعت التعاطي بينهما او حتى التأثير الإيجابي لهما كلٌّ في حقله.

ولا ينكر الصراع الواضح في مجتمعاتنا بينهما، فالعلاقة تشوبها عقد وثارات وغزوات أيضا لاحتلال موقع أحدهما للآخر، بحيث أصبحت (المعلومات – الإبداع) سلطة بأيديهما على حد سواء ومن خلالها يريدان فرض الصنمية والفوقية على بقية أفراد المجتمع.

للوهلة الأولى لا تتعارض لفظة الأكاديمي أبدا مع لفظة المثقف وقد يتمتعان بقدر مقبول من التوافق والانسجام بينهما، ولكن شتان بينهما فالأول يتعامل مع واجبات أقل من المثقف المطلوب منه أن يكون ريادياً على صعيد النقد والاكتشاف وإيجاد الحلول بالإضافة للقدرة على التأثير في المجتمع. ولا أريد أن أصل لما وصل إليه جاكوبي في كتابه "آخر المثقفين".

لقد جعل هذا الصراع وعدم التعاطي بين المثقف والأكاديمي من حياتنا الاجتماعية منغلقة وهذا ما يؤشره هشام شرابي في كتابه "المثقفون العرب والغرب": "حياة ذوي الاختصاص لدينا حياة مهدورة، وتدور في فراغ وإن إنهاك ذوي الفكر والاختصاص لا يرتكز في العمل لأهداف اجتماعية يغنى بها المجتمع، بل في السعي وراء الرزق والمصلحة الفردية، وإن نشاطنا الفكري والعلمي مبعثر لأنه يتألف من نشاطات فردية ذوات غايات خاصة لا يجمعها رابط اجتماعي موحد".

وهاتان اللفظتان قد يكون الحكم بينهما ما طرحه غرامشي في مفهوم (المثقف العضوي)، وقد لا أجانب الصواب إذا قلت إن الأكاديمي العضوي = المثقف العضوي.

4.

الأكاديمي ليس متحررا ومثله المثقف غير العضوي، فكلاهما يشبهان رجل الدين "أنهما يقرآن الشيء ويصدقانه ثم ينسجان ما يناسب عملهما الذي يجعلهما ضمن العائلة التي تمتلك صولجان السلطة المعرفية غير القابلة للنقا).

وهما يعرفان كل شيء بالضرورة في حين أن تشومسكي يقول "حين يجلس الفيلسوف أمام الإسكافي عليه ان لا ينبس ببنت شفة، فكلٌّ فيلسوف في ميدانه"

نقد الأكاديمي والمثقف غير العضوي نابع من الصورة الاخيرة التي وصلت إليها الأمور ويناضلان أيضا من أجل استمرار المخطط الانسيابي في انتاج أوضاع مختلة وراكدة.