القراءة فاعلية نصية بحتة هي أشبه بالانبعاث الذي يعيد الى الجماد حياته، ويجعله متحققا موجودا، والقراءة هي الحياة التي تعيد الى الكتابة الانبثاق والانبعاث، وقد تبدو للنص سلطة قائمة بذاتها تحتجز الناقد في داخلها، فلا يغادرها شاء أم أبى، وعن ذلك يقول الناقد حاتم الصكر واصفا تجربته إزاء سلطة النص:" فلقد أنقدتُ حيث أرادت لي النصوص، فسرت في متاهاتها، ولم أسلط عليها قراءتي فقط، بل كانت توصلاتي ووسائلي..آتية من شعاع النص نفسه من جرمه الذي يدور حولي ويفرض عليَّ رؤية فضائه".

وفي كتاب (البئر والعسل قراءات معاصرة في نصوص تراثية) أعطى حاتم الصكر للنص توصيفا أثيرا هو البئر، فقال:( إن البئر في هذا الكتاب هو النص خبر إو حدث إو قصة عاملتها بكونها متونا معروضة لقراءة التأويل لا التقويل). وهذا نابع من إحساسه أن النص له أبنية لفظية متبطنة داخل الهيأة الظاهرة في السطح وأن الغوص إلى تلك الأبنية الباطنية هو وحده الذي يتيح للناقد أن يقوم بمهمته.

 ولا شك أن إرادة الناقد في أن يغوص باحثا عن باطنية النص وفي أن يكون حاضرا في مشهد النقد هي التي جعلته يدرك (أن الاحتكام إلى النصوص وحدها كأبنية منجزة ماثلة للقراءة، يجعل دور القارئ هامشيا، فسلطة النص ذات قوة كبيرة تصادر حق القارئ في التأويل وربط علامات الغياب التي يبثها النص بما يوحي به متنه الحاضر). وهو في خضم تبنيه لهذه الرؤية على دراية تامة، بأنّ كينونته التي هي هيأت لها وجودا وطرفا له سلطة، قد أصبحت مهمشة أو مغيبة أمام هيمنة النص وسلطويته. وما عادت السياقات بأنواعها المختلفة مهمة أو أساسية، اذ كل شيء بات ثانويا، في مقابل الدور المركزي للنص بوصفه معنى ودلالة. ومن ثم تتفاوت الأدوار بين أطراف العملية النقدية هيمنةً وتهميشا، وهذا ما سينعكس بدوره على طبيعة التعامل المعرفي للناقد مع المراجع والمصادر الأدبية والنقدية. وهو ما عبر عنه تذييل الكتاب اعلاه بتعليق للدكتور علي جواد الطاهر يقول فيه: (هذا الكتاب يضيف جديدا وجدواه العلمية من عنوانه أولا ومن تنبيه التراثيين إلى قراءة مرنة يجدون فيها من النصوص ما خفي وراءها).

وقد انماز الطرح التحليلي الذي قدمه الناقد الصكر في قراءاته البنيوية بالغوص بحثا عن المعنى البعيد، متتبعا أفقا معرفيا ينطلق من بصيرة ثاقبة وفضاء عقلي واع، يمدِّان الجسور بين الغابر والمعاصر معا. وقد اختار الناقد نصوصه التراثية الأدبية منها والنقدية بناءً على مزاياها وخصائصها الاجناسية المستقلة بعيدا عن قصد مؤلفيها، ناظرا إليها كأنها (مأوى لجثث الكلمات الراقدة في سلام .. لتستعيد حياتها التي فارقتها بالفراغ من الكتابة).

 وفي المقابل كانت أهم ملامح التوجيه النقدي لديه تحتكم الى التوظيف الاجرائي لمصطلحات نظرية القراءة مثل التوقع، الواقعة، شعرية الواقعة، الأثر، مطابقة، استجابة، المتلقي، صدم التوقع، التوقع المنتظر وغيرها، من منطلق أن (القراءة بما أنها فعل ذاتي فسوف تنتجها ظروف محددة بتكوين القارئ ومعرفته وهي تقع في مرتبة ما من النص المتحقق). فعلى سبيل المثال احتكم الناقد حاتم الصكر في تحليل حكاية (زرقاء اليمامة) التراثية إلى أفق الانتظار، وكذلك فعل في مقالته (قشرة النص ولبه) مفيدا من نظرية التلقي، بيد أن الناقد لا يشير في توظيفه لهذه المصطلحات الى أية مرجعية. وصحيح أن الفاعلية الأكاديمية تستدعي من الناقد أن يوثق مرجعيات فعله النقدي، إلا إن كون القراءات هي في الاصل مقالات هو ما حتم على حاتم الصكر التخلص من التعداد للكتب والتوثيق لمؤلفيها. 

بمعنى أن تجنب الناقد لعناء التوثيق قد اختصر عليه كتاباته، فجعلها مقالات أو لنقل خواطر يبث فيها كما هائلا من الأساسيات والثوابت النظرية بطريقة عاجلة وبرقية، وعن هذا التوجه قال: (إن الافصاح عن هدف النص يلغي عناء القراءة، والنص يأتي بقارئه معه يقوده إلى متاهته من دون أن يزوده بعلم سابق كي يبصر الهدف في سياق واقعة مجسدة لا صورة للحظة وقوعها).

وقد يكون هذا الرأي أو الإحتكام إليه هو أشبه بالتبرير الذي به يصبح " كل ما يريده القارئ من النص هو حصول المطابقة مع ما في ذاكرته لينضاف إليها ما يعززها ".

وإنطلاقا من هذا الإدراك راح الناقد يدشن تلك القراءات باستدراكات كان فيها منظرا، مهمته وضع أفكار مفترضة لآراء هي في مجملها لا تبتعد عن نظريات قائمة بحد ذاتها في الفكر النقدي الغربي، مدركا أن النص "لا يصبح هنا مجموع مفردات، بل جمع عناصر تشكل علاقات أو تتشكل بها ". وبسبب ذلك وضع الناقد قائمة بالمراجع الأدبية وليست النقدية، بعضها ذكرها في تضاعيف قراءاته بلا تهميش للمتن، لكنه بعد ذلك أفرد للهوامش ورقة خاصة، ولعل القصد البحثي من وراء ذلك تلخيص جهده النظري أو توكيد أن تلك القراءة هي عبارة عن جهد تطبيقي لمرجعية نظرية بعينها.

ويظهر من خلال إجراء إحصاء بسيط أن مراجع الناقد النقدية التراثية متناسبة مع مراجعه النقدية العربية المعاصرة وهذا يدل على تزامنية الطرح النقدي الذي ألزم الناقد به نفسه. ولعل احساس الناقد بسلطة النص القوية عليه، كان السبب وراء تغليب الرؤية التطبيقية على التنظير المجرد، لذا قال: (فهذا الوجود القوي للنص خارجنا يظل بعيدا حتى تمتد إليه أيدينا لتبث فيه الحياة، فكأنه ينبعث ليكتب نفسه من خلالنا وبقراءتنا كتابة جديدة؛ إننا نضيف إليه سياقا جديدا يمنحه الحياة ويسير به صوب التحقق بعد أن ظل كامنا مستسلما). وقد صنّف الناقد نصوص ابن المقفع مثلا إلى ظاهرية وباطنية متوصلا الى ان طريقة ابن المقفع الادبية لم تتطور على أيدي لاحقيه من الكتّاب (ينظر الكتاب اعلاه، ص29)

اجمالا؛ فإنَّ إيمان الناقد بأهمية التجديد والإبتكار النظري تجلى واضحا في قراءاته النقدية الموظفة لمصطلحات نظريتي التلقي والقراءة. ومن المعروف أن مسألة إيقاظ النص التراثي لا تتم ما لم يكن الناقد قد امتلك مرجعيته النظرية كأداة تعينه على فتح مغالق النص واكتشاف طبقاته. وهكذا جاءت قراءات الناقد الاجرائية للنص التراثي ملتزمة منهجيا بأساسيات الطرح البنيوي، متكئة على مصطلحات نظرية القراءة الغربية لكنها لم تتنصل من التأصيل للفعل الجمالي الكامن في النصوص التراثية.

عرض مقالات: