مرة أخرى، يبتلع السيد " م.ع .ج " الطُعم ويظن أن الأمر لم يكن سوى صدفة ، حينما بعثر رفا من رفوف مكتبته بحثا عن كتاب لم يجده ، لكنه وجد اوراقاً قديمة مدعوكة قليلا ، قرأها بسرعة، كانت أغلب الاوراق يتحدث فيها كاتبها عن أيام باتت بعيدة ، أختار ورقة كتب في منتصفها ـ 6/5/2003 ـ سأنقلها لكم كما هي بلا زيادة أو نقصان :
يوم حزين بامتياز بعد عاصفة ترابية أطبقت على بغداد، غبار وفوضى ورتابة . خرجت صباحا من البيت لأتفقد ما جرى، أول الأمكنة ـ باب المعظم ـ وجدت الخراب كله تحت خيمة دخان تتصاعد من خرائب كانت بيوتا ومؤسسات، أولها بدالة باب المعظم، التي كانت تئن بفعل حركة بعض من الصفائح التي تحرر جزء منها وبقيت اجزاء منها مدفونة، أصواتا تشبه الأنين، صفائح انصهر جزء منها بفعل النار، وتحولت اجزاء منها الى أصابع مثلومة تتجه نحو الافق، بعضها صعد بحركة متوازنة مع حركة الريح نحو السماء التي اكفهرت، بدت لي هذه الاصوات كسمفونية تتحدث عن الموت، نشيد يذيب القلب. حينما غادرت محيط البدالة، متجهاً نحو بناية كانت تشغلها .. مكتبة بغداد المركزية، او ما كان يسمى دار حفظ الوثائق التي تم اقتحامها بدت أمامي كجثة محترقة وبلا اطراف، بناية بلا طوابق ولا قاعات ولا مجارير ولا رفوف ولا كتب ، عدا بساط هائل من الاوراق التي تناثرت في كل مكان وزاد من تناثرها حركة الريح وعصفها ، حقا انها قيامة الكتب ، لم احتمل الامر بعد أن وقفت طويلا وانا منهمك بالتدخين ، الغبار وهو يمتزج من دخان السكائر بدأ يطبق على صدري مما زاد من حاجتي الى الهواء النقي ، جلست في زاوية قربها كوز من الماء مكتوب عليه ــ سبيل يا عطشان .. واذا شربت اذكر عطش الحسين ــ يا حسين انا اتذكرك سواء شربت الماء او لم اشربه ، اتذكرك الأن وأنا أسير وسط حطام مدينتي ، هل هناك امكانية للمقارنة بين ما حصل في يومك يا حسين مع ما حصل في يوم العراقيين هذا !؟.بعد أن التقطت انفاسي قليلا تحاملت على نفسي ووصلت الى مقهى حسن عجمي ، المقهى الآيل للسقوط الذي صمد لا أعرف كيف على الرغم من طوفان الصواريخ ودوي الانفجارات القريبة منه ، في زاوية من زوايا المقهى وجدت " حسين حسن وصفاء صنكور وعبد اللطيف الراشد ومنذر الجبوري واحمد الثائر وحسين علي يونس " كانت الدهشة تعلو وجوههم مثلي ، اشار حسين حسن ناحية ورقة مكتوبة بخط اليد ملصقة على زجاج المقهى الخارجي ( كانت دعوة للأدباء للتجمع غدا في مبنى الاتحاد الساعة 10صباحا لغرض تشكيل لجنة تجرد ما بقي من أثاث وأضابير الأدباء واعادة تنظيم اتحادنا ) العاصفة الترابية مستمرة صاحبها مطر خفيف ، رغم المطر كنت غاضبا جدا ، سمعت ان مؤتمر الناصرية أجل عشرة ايام اخرى ، ولم نسمع إلا وعود بعودة الكهرباء والهاتف ، الشارع شهد حركة سير قوية ، أمام أحد الافران في شارع الرشيد ، وقفت مع طابور طويل لرجال اغلبهم من المشردين الذين ينامون في أزقة الحيدرخانه ، وسط الطابور ، رأيت رجلاً يرتدي قبعة رمادية ونظارات عريضة سوداء ، كان صامتا وحزينا وشاردا ، لكن منظره وصمته يؤكدان لي على الأقل ، أنه أحد شخصيات "دستويفسكي" خرج من احدى رواياته، وصل الى بغداد ، ليَرى حتى يتمكن أن يَرْوي علامات الانسحاق البشري المؤلم وليؤكد حقيقة أن الحرب لا قلب لها إطلاقا . كل الاخبار لا تعني شيئا وسط الحطام ، كلها لا تعني شيئاً لأن الحطام والخراب في بغداد أفصح الاخبار واكثرها قوة .