امتاز أدونيس بوصفه شاعرًا حداثويًا وناقدًا تنويريًا بمنزعٍ تقويضي يساير النهج التفكيكي، سواء في تبني الثنائيات وعقلنتها أو في استقصاء الرؤى وعلمنتها. وهذه العقلنة وتلك العلمنة أفضتْ بأدونيس إلى أن يكون دومًا في منطقة الحيرة والتشكيك والتثوير، انعتاقًا من الأصول وانفصالًا عن الجذور لتكون تلك السمات هي الطوابع الشخصية والمعطيات الاحترافية التي شق بها أدونيس طريق التميز والعطاء على صعيدي الشعر والنقد.

ولقد شغلت قضية القدم والحداثة فكر أدونيس حتى كرّس لها جهوده الابداعية والبحثية، وأعطى لها في تفكيره حيزا كبيرا لتظهر للعيان في شكل مشروع تأليفي ذي أربعة أجزاء بعنوان( الثابت والمتحول بحث في الاتباع والإبداع عند العرب) ولا خلاف أن المشروع هو رحلة بحثية ذات نهج تحديثي وأهداف تجديدية تُعيب ولا تدين، وتؤشر ولا تؤسس، وتشخص لكنها تغلّب وفي الوقت نفسه تحاذر لكنها تتقصد.

 ولقد جعل أدونيس أهم أولويات العقلنة الفكرية في مشروعه البحثي هذا أن تقوم على نبذ الاتباع والمسايرة ورفض المحاكاة ونسف التقليد، مع التطلع إلى التجديد بغية الظفر بمواطن التفرد والغرابة، واقتناص مواضع الانزياح، بفردانية بعيدة كل البعد عن كلاسيكية السابقين أو قاعدية المطاوعة للسالفين. وأدونيس هو الذي آمن أن ثنائية الثابت والمتحول ستتمخض عنها ثنائيات كثيرة وليدة أو فرعية منها: ثنائية الاتباع والإبداع وثنائية الأصول والتأصيل وثنائية الحداثة والموروث وثنائية الصدمة والسلطة..مداوما على مفاهيم اختص بها وأُخرى رصدها وكثَّف النظر حولها، مبلّورا محصلاتها بعيانية واستبصار واضحين.

 وكان التمهيد في تناول مشروعه مبتدئا بالحديث عن الحداثة وصدمتها بالإشارة إلى معطى (الخلافة في الشعر) وتعني أن يتبع الخلف السلف فكرا وعملا استمرارا للأصل وتأصيلا للاستمرار بلا أدنى خروج أو تغيير وهي بذلك تضاد الاجتهاد وتعادي الإبداع وتستكره التهجين، معرفا بطبيعة المنظور المعتاد للخلافة في إطارها السياسي والتاريخي وكيف تحول إلى إطار إبداعي جديد هو أول ملمح من ملامح الاتباع. وقريبا من هذا التعاطي يأتي ما سماه أدونيس (نموذج السلفية الشعرية) كمفهوم آخر يضاد مبدأ الحداثة بمحمولات سياسية وفكرية تقوم على الانغلاق والتعقلن وتمثْلية المثال وتقليدية الموروث، مما يؤصل للمحاكاة في اتباع علم النموذج بلا تجدد أو اختلاق.

والحداثة عند أدونيس تعني التفاعل أو التصادم بين عقليتين، وهي الخروج على التقاليد الموروثة سلطوية أو أدبية كنتيجة طبيعية لتغير الأزمنة، رابطا ذلك بقضايا النقد القديم كقضية اللفظ والمعنى وعمود الشعر والطبع والصنعة. ومثّل على ذلك بالمبرد وابن قتيبة وابن جني وابن رشيق وبشار بن برد والسجستاني وأبي نواس وأبي تمام. ولأن الشعر مدار اهتمام أدونيس الإبداعي والنقدي لذلك ناصر ابن قتيبة في جعل قيمة الشعر لا تتحدد بقدمه أو حداثته؛ بل بالبحث المستمر عن الجديد والمغاير حتى إذا أنجز الشاعر شيئا تطلع أمامه باتجاه ما هو أنجز.

وقد يقرأ أدونيس الشعر قراءة تعكس نظرته الذاتية وحساسيته الإبداعية الخاصة في الشعر، ولاسيما في تناوله قضية القدم والحداثة، اذ انشغل بنقد ثنائية المثال والخلق التي تتضاد ولا تتطابق، لان الشعر عنده خلق لا مثال له وابتداع لا تأسيس فيه. وقد قادته هذه الثنائية إلى معالجة الشعر ككتابة لا خطابة. وهما وإن كانتا نابعتين من حاضنة واحدة إلا إن الثانية متغلبة على الأولى، فالكتابة اكتساب يقوم على المعاناة والمكابدة بينما الخطابة فطرة وبداهة انتهت منذ نزول القرآن الكريم لينسدل الستار على عهد الارتجال والبداهة. ولتتحول البداوة إلى مدنية وبذلك يدين أدونيس الخطابة كشفاهية وكنظام دال على الفكر العربي والحياة العربية البدوية. وينتصر للكتابة معليا شأنها كونها صناعة بلا اتباع وينفر من الشعر كقالب ويتجه صوب الكتابة كإنشاء. وميّز أدونيس بين المثقف والكاتب فكل مثقف كاتب لكن ذلك ليس مشروطا في الكاتب والسبب أن الكاتب يؤلف وينشر أما المثقف فإن له رؤيا خاصة للعالم وطريقة خاصة في التعبير عن هذه الرؤيا.

ولقد دحض أدونيس مؤدى الأصل والأنموذج واحتكم إلى اللا قياس واللا حكم مناصرا الكتابة ومتنكرا للكلام والسبب أن الأول تجميع والثاني بعثرة وكان استشهاده التمثيلي على الكتابة مرتقيا إلى النموذج الأوربي مالارميه في حين عاد في تمثيله على الكلام إلى الشعر الجاهلي.

وقادته قضية القدم والحداثة أيضا إلى البحث في ثنائية العرب، الغرب فتتبع تاريخية التفاعل الحضاري بين العرب والغرب الأوربي وما حصل من تصادم في طريق هذا التفاعل وبيَّن أن ما يحدد الحداثة وجود أساسات أربعة هي: الموضوع أو المضمون، طريقة التعبير والتحرر من القافية، تعريفية الشعر، نظرة الشاعر ورؤيته للعالم.

وكان بإمكانه أن يمثّل على هذه الكيفيات ولاسيما طريقة التعبير، ويُعمل فيها أدواته ويطرح رؤاه لولا أنه كان منشدَّا إلى أدونيس الشاعر الذي نفر من التنميط والمعتادية، بانيا على هذه الأساسات رؤاه بإزاء التجارب الشعرية العربية الحديثة التي ظهرت قبيل القرن العشرين وما بعده كالبارودي وحركة ابولو وجماعة الديوان والرصافي وخليل مطران وجبران خليل جبران، متتبعا الارتداد والتنميط في هذه التجارب، مناقشا ثنائية الأصالة والمغايرة، معيبا الأولى بوصفها ارتدادا إلى الأصل ومتوالية تكرارية للأشكال القديمة، وما قد يترتب على ذلك من تبعات تجعل الأصالة تسويغا مؤدلجا لسلطوية النموذج وقمعية الأصل.

 وهو إذ يرفض الأصالة كمفهوم فإنه لا يرفضها كلفظة بمعناها الدال على الفذاذة والمغايرة والفرادة ليكون القول إن هذا شعر أصيل دال على الشعر الذي يبحث عن نظام آخر غير النظام الشعري القديم. ولما يضع أدونيس البارودي أو الرصافي أو غيرهما من الشعراء تحت مجهره النقدي ويخضعهما لمبضعه التحليلي؛ فإنه يحاكمهما من منظور الشاعر للشاعر لا من منظور الناقد للشاعر وهذا ما جعله يسقط رؤاه إسقاطا ويفرضها فرضا.

وجدير بالذكر ان بلانشو حين قرأ مالارميه انطلق مما هو كلياني بناء على نظرية أدبية بينما كان طرح أدونيس حول الرصافي أو البارودي أو غيرهم واقعا تحت طائلة التخصيص من زاوية كونهم تصادميين في حداثتهم. الأمر الذي أعطى لمنظور أدونيس للشعر العربي طابعا نسبويا كون التفكر في أمر الحداثة وبناء مشروع ينهض بفكرة التجديد والانقلاب على القديم ينطلق من أساسات تحررية لا من قاعدة نظرية علمية، لتغدو طروحاته مجرد افتراضات وجدالات تجزم وتقطع وتتجاوز وترتد بلا احتكام معتدل أو تحاور متزن يتوسط ولا يتطرف ويتلاقى ولا يقاطع ويخوض في الثنائيات بطواعية لا حدية فلا يغلب واحدا على الآخر.

وهذا ما انماز به مشروع أدونيس (الثابت والمتحول) فانكب على الفكر، معنيا بالإجابة عن السؤال ماذا على الشاعر أن يفعل؟ وليس كيف على الشعر أن يصنع؟ ومهتما بمعرفة من الشاعر الحداثي لا ما الشعر الحداثي؟ ليغدو صنيع أدونيس وهو بإزاء تجارب شعراء النهضة العرب في العصر الحديث مطبوعا بطابع التقاطع وهو يتطلع الى الحداثة. فتبدو القضية وكأنها عملية مناصرة تقدمية، والسمة الاساس فيها هي التضاد مع كل مظاهر اللا امتداد، تبرما من النمطية والارتداد. وليس غريبا أن تسهم مؤلفاته النقدية والبحثية والترجمية في الارتفاع بذائقته وتجربته، لتكون الكتابة عنده عبارة عن نزوع ذاتي ممزوج بالموضوعية والرومانسية مع الاعتداد بالذات انطلاقا من أصل وبناء على قراءة. وإذا كان اسم أدونيس قد علا وبرق في عالم الشعر؛ فإن مشروعه التحديثي على المستوى النقدي ظل معوزا إلى التصعيد موضوعا وظاهرة ونسقية تحاول ان تجذِّر من دون قطع وتؤمثل بلا انفلات.

عرض مقالات: