ورقة مستلة من دفاتري القديمة يعود تاريخها الى يوم 31 آذار2003 ، يمكن عدها ذاكرة بقيت عالقة في المخيلة، أو شيء له علاقة بتاريخ الوجع المداف بالجمال ، لاأعني ماحدث في هذا اليوم منذ اربعة عشر عاما ولكنها الحياة التي كانت تضج في شوارع مدينة وفرح نصنعه . كان آخر يوم من آذار بلون وطعم لا يشبه كل آذارات أعمارنا. الحرب تغلي، تصعد الى السماء وتهبط على هيئة طائرات تواصل القاء حمولاتها على بغداد ثم تذهب بعيدا، لتأتي طائرات أخرى، وبين غارة وأخرى ربما تهبط علينا سكينة وهدوء لايدومان سوى بضع دقائق، وهكذا أصبح لنا تقويم من الخوف والهلع ولغط كثير، يدور في بيوت تغلق ابوابها وشبابيكها قبل الاوان خوفا من ما يدور خارجها. الهمس يتصاعد عن سقوط مريع لآلة الحرب الصدامية، لا مقاومة تذكر، لا شيء سوى بيانات يلقيها على مسامعنا جنرالات، نرى بعضهم أول مرة، عدا (الصحاف) الذي تخصص في تكذيب كل ما نسمع من محطات عالمية. وفيما كنت انوي القيام برحلة الى البياع "اسميها ـ رحلة ـ لأنها في مقاييس تلك الايام تعد رحلة طويلة بسبب قلة وسائل النقل في بغداد بل وانعدامها تماما احيانا اخرى " فقد انقطعت اخبار ابنتي الساكنة في البياع، كنا أنا وأمها نراقب بيأس الهاتف الارضي الذي تعطل تماما. قمت برحلتي الى البياع، وفي الطريق كنت استعيد ذكريات هذا اليوم والفعاليات التي كنا نقيمها. حفلات عائلية .. الجميع ينتشي شعرا وغناء .. الشيخ إمام وهو يموسق بايقاعات شعبية قصائد أحمد فؤاد نجم، .. كذلك إيقاع أغانٍ لا تفارقنا ( اليمشي بدربنا شيشوف ) و ( عمي يابو جاكوج) و (مگبعة) كل هذا كان يدور اليوم. سببت لي هذه الرحلة واستعادة الذكريات وجعا مراً. وحالما وصلت الى العلاوي، وجدته خاليا الا من بضع سيارات تلوذ قرب الجدران كما فعل الكثير من السواق والسكنية الذين رأيتهم يخترقون بعيونهم، جسد امرأة في الاربعين من عمرها تحمل الكثير من الوسامة وتنظر الى الشارع الذي يمكن ان تأتي منه السيارات، مؤكدة انها غير مكترثة جدا بهم رغم علامات الخوف الظاهرة على وجهها. حالما وصلت سألت عن سيارات البياع، لم يجبني الشاب الذي سألته، لأنه كان مشغولا بالنظرتارة الى المرأة والى السماء تارة اخرى، حيث بدأنا نسمع ازيز طائرات أعقبته انفجارات بدت قريبة جدا. اقتربت المرأة مني، وهي تخبرني انها ايضا بانتظار سيارات البياع، حينما وقفت قرب المرأة توقفت نظرات السواق ومساعديهم من النظر ناحيتها، وانشغلوا بمزاح يتعلق بطائرات تأتي وطائرات تمضي، وكأن العراق تحول الى كراج كبير تقصده الطائرات. مزحة اضحكتني واحزنتني، حقا تحولنا الى كراج كبير بسبب معتوه يعرفه الجميع، ولكن لا أحد يصرح باسمه. وفي السيارة التي سرعان ماامتلأت لان الركاب كانوا ينتظرونها وهم يحتمون خلف الجدران، سرنا قريبا من الدمار الذي سببته طائرات القت بحمولتها على القصر الذي سمي (قصر السلام).
رأيت عن قرب فتحات الصواريخ في سقوفه وقببه، لكني رأيت التماثيل التي تحيط القصر وهي سالمة، ولم تزل ثابته لم يسقط أحد منها، لكني احسستها خائفة ترتعش ذعرا بعد كل قنبلة تسقط.
تقف التماثيل تحدق بالدمار بلا تهيّب وسط القصر الذي امتدت سنوات بنائه الى عشرة أعوام، ضخت فيها بنوكنا اموالا سائلة كثيرة. وها هو الان يتحول الى حطام، كذلك باقي المباني العملاقة، عمارات هوت على الارض بفعل الصواريخ. وقبل ان اهبط من السيارة هبطت قبلي المرأة الاربعينية التي يبدو اني تحولت الى منقذ لها من مضايقات السِكَنية، عبرت عن شكرها بابتسامة، وادارت وجهها ومضت.