الكتاب الشعري هاكَ أجنحتي للشاعرة الدكتورة سجال الركابي يحيل القارئ منذ العنوان إلى آفاق متعددة من التخيل المصحوبة بالتأويل للهدف الذي يقصده إذا ما علمنا أن العنوان يشكل ثريا النص فلو تابعنا لوحة الغلاف الأول للكتاب لرأينا اللون الأسود هو الطاغي على مساحة اللوحة المنبثقة من ظلام دامس ويكون الجناحان فيها إشراقة وضيئة لشمس تحاول أن تحتضن مجموعة أوراد غير واضحة المعالم بإيحاء يعود إلى لحظات الغبش الذي يسبق الشروق اليومي للشمس، والجناحان يمتدان داخل اللوحة التي شكلت جسد الطائر وهذا الظلام الدامس المحيط بالطائر الخرافي ذي الجناحين المشرقين وهذه الورود الغامضة المعالم رسالة الثريا التي أرادت الشاعرة [سجال الركابي] الإيحاء لقارئها بطبيعة التجارب التي عاشتها في مغتربها الجغرافي خارج الوطن ومغتربها الروحي داخل الوطن وبين رسالة أولى تحاول إيصال جوهر التجربة الشعرية الخاصة سأحاول فك الاشتباك بين عالمين عاشتهما الشاعرة بتجارب متنوعة المقصد وحركية الفعل واحتدام مكلل بجمالية لغوية تحسب للشاعرة، فهل ستكون نصوص الكتاب هي الأجنحة التي منحتها للمخاطب المجهول في كلمة [هاكَ] بلا شك ودون محاولة لِلَيّ جوهر النصوص فإننا نعترف أولاً أن نصوص المجموعة هي البيئة الروحية التي مكنت الكلمات من اعتناق أرواح الأجنحة لتشكل العلامة الفارقة في هذه المجموعة المميزة التي تحمل نمطين من النصوص فالغالب فيها نصوص قصيرة في آلية كتابة تحاول الاقتراب من نصوص الأيقونة باشتراطاتها المعروفة في تبئير التجربة وتكثيف اللغة وخلق النهاية المفاجئة للقارئ وثمة نصوص يغلب عليها الطول المناسب لطبيعة الخطاب الشعري الذي اختارته الشاعرة كوسيلة لنقل تجاربها وما يهمنا أساساً في هذه المقالة متابعة النصوص القصيرة وسبر أغوارها ومقاصدها وطبيعة التناول الشعري للتجربة وفقاً للرؤية الفكرية وللرؤيا الحلمية على أن لا نهمل النصوص الأخرى الموازية فنياً لمجاوراتها من النصوص القصيرة، ثمة أكثر من تسعين نصاً شعرياً من النمطين يشكلان الصورة الكلية للكتاب في مسعى من الشاعرة بوعي لكشف تجاربها ورؤاها وانزياحات لغتها للوصول إلى مكمن جوهر الكناية الكبرى لنصوص المجموعة.

تفتتح الشاعرة نصها الأول (الزهور تقفز العواقب... !)

( أتلاشى... سحابة نجم

          فهل...؟ 

وصلت سماواتِك...؟!

أغمض عينيك... ربما تراني     ... أراقصك

في وتيرة مبهمة! )

هذا المفتتح الجميل يمنح المتابع الخطوة المضيئة الأولى لإدراك صورة الجناحين المستعارين بقوة المخيلة لتشكلا خطاباً افتتاحياً للدخول إلى لجج المجموعة فثمة إيحاء بالطيران حدّ تخوم سماوات المخاطب وتظهر كلمة (نتطاير) لاحقاً في إشارة إلى أن الطيران لن يكون بفعل الجناحين الحادبين بل وفق قوة خارج إرادتهما تسبب التطاير للبحث عن مكان جديد في فضاء الكون الواسع فتقول الشاعرة:

(مهما يكن....

هناك يوم جديد

أنامل المطر ترتشف

صمت الدموع الغاضبة

بنثيثها الساهي آمنتُ....

ليس من المستحيل هاكَ أجنحتي....

ممحاتي... فرشاة ألواني

نرسم وروداً بيضاء الحدقات ينابيع زلال)

فلو ربطنا بين النصين الأولين لوجدنا ثمة رابط خفي بين فضاءيهما معاً هذا الرابط سيبقى خفياً في أكثر نصوص المجموعة ومعنى هذا أن الشاعرة تلوّن في آفاق تجربتها الخاصة وفق حركية متمردة إلا أنها تنطلق من أرضية ثابتة تشكل رؤيتها الشعرية شريان الإيصال بين العوالم المختلفة للنصوص.

وفي شعورها العميق خلال طيرانها المتخيل تجد الشاعرة موتاها أمام من يشكو لها فتحاول استرداد موتها بأناقة تنتصر على معنى الموت البايولوجي للإنسان وصولاً إلى نوع آخر من الموت وهو الغربة القسرية التي تعيشها جغرافياً وروحياً فتقول في (أناقة) :

( كفاك شكوى... أنين لهوٍ!؟

الموتى لا يسمعون

ها أنا ذا؟

استرد الموتى! بأناقة باذخة...)

وتبقى الشاعرة مأخوذة بأجواء الخذلان الروحي دائماً ففي جملة قصيرة رائعة تعترف له؟!

(موج بحرك

يصيبني بالدوار)

فأي بحر هذا الذي يصيب الطائر الكريم الذي منح جناحيه للحبيب بالدوار وهو دوار محيط بالعوالم التي تعيشها في دوامة عيشتها في تجربة قسرية تبعدها عن ملامح من تحب نبضات قلبه التي سرقتها أمواج بحره الهادئة والهاربة من ساحة الذكرى إلى واقع الخيبة التي تعتقدها وهي وإن أعلنت عن (انحياز) في نص جميل إلا أنها تكابر بقوة الإيمان والحب فتقول:

(كم زهوت..

بأشواك العناد

ما لها اليوم...

منحازة لك... ضدي!

أما دريت..!

لست سوى طفلة

تناغي الورد

لا تخدشني بحجر

ما توسمت فيك

إلا

كفوف حنانٍ ورقّةٍ)

ربما يشكل هذا النص خلاصة المواجهة الروحية للشاعرة في لا انحيازها للعوالم التي تعيشها في راهنها وتحاول أن تبعدها بقوة الباصرة عن الواقع المنغمسة فيه فهي في حيرة من هذا الانحياز غير المفهوم عندها وتعترف بأنها طفلة لا تتقصد المكر أو الحيلة أو النسيان مع رجاء منها بضرورة أن يكون انحيازها له ضدها ما هو إلاّ الاعتراف بحبها له رغم كلّ شيء وهي في حلمها هذا ورجائها الروحي للحبيب إلاّ أنها تعترف أن لا تعتمد على الأحلام بل تؤمن بالواقع فتقول في نص آخر:

(تفرّ الأحلام

يسقط النوم من الشرفة)

فهي حين تساوم الأرق من أجل هدنة قصيرة لا تجد حلاً أمام أحلامها التي تنهار مع سقوط النوم من شرفة الرؤيا الخاصة بها فتقول في نص آخر:

(ياآآه يا للغفلة

كيف اقتربت...!

دون رداءٍ مضادٍ للاشتعال)

وهي وإن كانت منحازة بسبب طفولتها غير مؤمنة بالأحلام التي أسقطها النوم في شرفة الانتظار إلا أنها ولغفلتها وباعترافها اقتربت من موضع الجمر دون أن تهيئ ما يمكنها بعدم الاشتعال أو الخوض في غمار تجربة قاسية حد الخذلان. وسرعان ما تؤكد غفلتها حين تصرخ في نص آخر:

(- لست زرقاء

لست زرقاءَ و... قد لا أكون يمامة!

إلاّ إني يقيناً.. أراك

صادحاً فوق النخيل)

هذه الرؤية العقلية المؤطرة برؤية حلمية اعتراف من الشاعرة أنها لا تتعامل مع أحلامها بيقينيّة مطلقة إلاّ أنها تصطنع لروحها أحلاماً حقيقية من واقعها القديم باستعارة النخيل الذي تراه صادحاً بحبّها له فوقها مضاءً بأجنحته التي هي أجنحتها التي كللت حياته وحياتها بمزيد من المحبة والإيثار والجمال الساطع في روحيهما.

وهي رغم كل هذا ما زالت تعترف بامتلاكه لها بقوة وعيه وغشيان غفلتها التي اعترفت بها وانحيازها له فتقول في نص آخر:

(ألبستني

ضيق تملككَ

كيف... تراني سأغرد)

هذا السؤال الاستنكاري يشكل أس عقد التجربة الروحية التي عاشتها الشاعرة بكل هذا العنفوان والحيوية المشوبة بالخوف والاعتراف بالتقصير في مواجهة إشكالية الثنائية المتضادة في الحياة بين الذكر والأنثى تلك الإشكالية التي أقيم عليها الوجود ولأنها كذلك فهي في مشوار علاقتها مع الآخر القريب والبعيد تناديه بمحبة في نصّ آخر:

(أيها الصديق

جسراً أصير

لتعبر إلى ضفة آمنة)

فهل الجناحان اللذان منحتهما له غير قادرين على حركيته المتخيلة باتجاه أن تقول له أن عبورك إلى الأمان سيكون على جسدي الجسري الذي اصطففته لك هبة روحية مني لتناديه مرة أخرى في نص آخر فتقول:

(كفاك... كفاك

مللت اتشاح الليل....

نشيج الفراغ...

هلا اعتزلتني...؟

وأنت... ! أنت...!

أيها النسيان... امنحني

مثقال ذرة من الوهم

ألون به شفتي.. )

وربما نجد أن ثمة تناقضا بين دعوة أن تكون جسراً له والملل من اتشاح الليل به ومخاطبة النسيان لمنحها مثقال ذرة من الوهم.. إلا أنه تناقص تداولي معروف في لحظات احتدام الظروف القاسية التي يواجهها الإنسان في تجاربه القاسية فهو متردد بين قبول يحاول أن يتمسك به ورفض يحاول إقصاءه لتشكيل حركية تجربة المخيال أو الوهم الذي طلبته في نهاية المقطع وتنهي تجربتها مع الآخر الذي منحته الجناحين فتقول له في نص آخر:

(آه.. لها أنت ركبت الرهان

إزدَهِ.. وتبجّحْ..

قد فاتك...

خسران بياض النرجس)

ففي هذه النصوص المختارة يتأكد لنا أن الشاعرة التي تعيش تجربة فريدة بين الحضور والغياب بين المخاطب والمتكلم بين الوجود والعدم تحاول أن تستثير ما حولها من موجودات مرئية أو محسوسة للوصول إلى جوهر وجودها كأنثى ليس أمامها إلاّ أن تهب وجودها بإخلاص وفداء للآخر الذي اختارته مضحية بوجودها ككائن خلاق في سبيل الانصهار في الحياة المشتركة ورغم تضحياتها واعترافها بما واجهت من صعوبات في التكتيف الروحي إلاّ أنها تبقى الأنثى المانحة للحياة القادرة على إزاحة المكائد والإخفاقات وصولاً إلى إشراقة جديدة منبثقة من أعماق جوهرها الإنساني.

ترى... هل استطاعت الشاعرة سجال الركابي الإحاطة بقسوة تجربة الحياة كأنثى مانحة للاحتفاظ بجوهرها الخلاق عبر هذه النصوص؟ أقول وبكل صراحة نعم لأنها أكدت أنها الأنثى الفادية رغم مرارة التجربة وقسوة الظروف وضراوة المواقف التي واجهتها.

مرحى لها وهي تسمو في علياء روحها الفدّاءة بالبذل والجمال.