كثيرا ما نقرأ عن علاقة الثقافة بالتجديد، وكثيرًا ما نقرأ أيضًا أن التجديد يرتبط بالثقافة، والمشكل المعرفي يتطلب فهم الحقلين: حقل الثقافة، وحقل التجديد. وفي ثقافة الحزب الشيوعي العراقي، وجدنا منذ أن بدأنا نقرأ أبجديته السياسية في أواخر الخمسينيات، أن التجديد يرتبط بالثقافة، وأن الثقافة جزء من بنية المنظومة المعرفية الجديدة. ومع ملاحظاتنا على الطريقة التي كانت اللجنة التي أوكل إليها اختيار مفردات الثقافة للتثقيف الحزبي، بأنها جامدة، بحيث لم تغير مفردات التثقيف لسنوات، إلا أن الأساس في ذلك بقي صائبًا. وهو الثقافة بنية فوقية في فهمنا الإجتماعي لها، لأنها بنية من بنى المجتمع، وتخضع لما تخضع له بنى المجتمع من تقدم وارتكاس. ولأن المثقفين شرائح موجودة في كل الطبقات الإجتماعية. لا يشكلون طبقة متميزة، بل شرائح اجتماعية لا يمكن إلا أن يكونوا بحكم وعيهم للحياة، حلفاء حقيقيين للطبقة العاملة، فالإنسان المثقف يتجاوز موقعه الفئوي، ويلتحق بالكادر التنوير، وشاهدت كثيرا من الأدباء ينتمون لطبقة برجوازية بينما أفكارهم يسارية أو تقدمية، أو في أفضل الحالات يكونون في موقع قريب جدًا من الماركسية. النظرية الماركسية، أوأية نظرية أخرى، لا تحقق وجود مفاهيمها إلا من خلال ممارسة المثقفين المتخصصين لها، لذلك يكون مفهوم الثقافة في مرحلة بناء المفاهيم، بنية فوقية، أما في مرحلة تطبيق المفاهيم عمليًا، بنتاج روائي، شعري، مسرحي، نقدي، أي مرحلة تطبيق المفاهيم يكونون ضمن منطق الطبقة العمالية.

ينتمي مفهوم الثقافة الجذري إلى "الأنثروبولوجيا، ولكنها قابلة للنقل إلى علم الإجتماع"، هذا ملخص للأرضية العامة التي قامت عليها مفاهيم الثقافة.. فالثقافة إطار للفكر يتم من خلاله تطوير النظريات والأبحاث، باعتباها رؤية للعالم، أي تصورًا أيديولوجيًا للمجتمعات" ارتبطت بقدرة الشخصيات على ترجمة ما يجري في مجتمعاتها إبداعًا. وأكاد أجزم، أن المثقفين العراقيين، من أنضج الفئات الإجتماعية الذين جعلوا من ثقافتهم العملية، طريقة لفهم تطورات وارتكاسات المجتمع العراقي. تقرأ الرواية العراقية بكل صنوفها، ومراحلها، وأساليبها، تجدها مشدودة إلى جذرها الإجتماعي، حيث تضع أشياء الواقع وأحداثه، في بؤرة رؤيتها القصدية للواقع وسؤالها المعرفي عن الكيفية التي يتطور بها. فالوقائع والأحداث ليست معزولة عن هذه الرؤية القصدية، كما أن الطرائق الفنية للمعالجة الإبداعية، نحت منحى التجديد، حينما أخضع المؤلف الوقائع الاجتماعية إلى سؤال المخيلة، وإلى التصورات التي ترسم صورًا أكثر فاعلية للخطاب الثقافي. وعندما تقرأ الشعر العراقي، في مختلف توجهاته، عدا التوجهات المنحرفة، والدعائية، والموظفة لأغراض، تجده روحًا مادية للتجديد. والحداثة التي ابتدأ مسارها في الأربعينيات من القرن الماضي نمت وتطورت في أحضان الثقافة اليسارية.

إلا أنه ليس من السهل فهم الثقافة هكذا، وكأنها إنتاج فردي، فالثقافة في صورها المتعددة تمثيل لبنية اجتماعية جماعية منظمة، بنية لها قوانينها الصارمة في الرواية، والقصة، والقصيدة، والرسم، والنقد، والمقالة الصحفية، ومن يعتبر الثقافة نزوة عاطفية، أو رؤية شاذة في الخلق، أوانطباعا عما يجري، فهو على خطأ، قد تكون مثل هذه التصورات صحيحة في بداية الكتابة، لكنها بمرور الوقت يحتاج الكاتب والفنان إلى فهم قوانين تنظيم النص.

تنتج الثقافة المتخصصة بنية لنظام معرفي، يشمل الإنتاج والمجتمع معًا. وعلى االمؤلف اتقان قوانين هذه اللعبة الجدلية، وعلى القارئ معرفتها وفهمهما، كي يتاح له تأليف نصها وفق ما يفكر به.. ومن هنا، يجد الكثير من الكتاب الماركسيين، أن عمل الكتابة هو تنظيم اجتماعي من نوع آخر، وليس إنعكاسًا مباشرًا للمجتمع، الإبداع رؤية متغلغلة في تراكيب البنية الاجتماعية العميقة، وما يظهر منها على السطح، ليس إلا الجزء المضيء منها، بينما أجزاؤها المعتمة غائبة عن الرؤية السطحية للأشياء، دائما تكون بحاجة إلى إضاءات معرفية وفلسفية للكشف عنها. يكون للمخيلة فيها نصيب أوفر. العمل الثقافي المنظم مقارب لفهم آليات تشكل الظواهر الاجتماعية. لا تختلف الثقافة عن أية خبرة عملية لفهم المجتمع، فيها بنية تجريدية للرياضيات، وفيها أشكال هندسية توصل وتتصل، وفيها علوم بايولوجية، وفيها فسحة واسعة للخيال المادي للأشياء، فالثقافة الإنتاجية كأي كائن حي لا يمكن أن تكون أجزاؤه غير منتظمة، لذلك عندما نتحدث عن التجديد للثقافة، نتحدث عن تطور أنظمة بنائها. فهي بضاعة تنتج المعرفة، لها مؤلفون منتجون، ولها قراء مستهلكون، ولها أسواقها، وأمكنتها وأزمنتها، ولكن عليها أن لا تكون جزءا من بنية أيديولوجية مستغلة، التي تجعل المثقفين منتجين لمعارفها، وتوجهاتها، على حساب تطور آليات نظمهم المعرفية، وهو ما تسعى إليه تيارات ما بعد الحداثة. وأهم ما في المصاهرة بين التجديد والرؤية الاجتماعية، هو أن يكون الفن أداة تغيير لطرائق التفكير، لا أداة للتسويق الايديولوجي الكولونيالي الذي تعتبر تيارات ما بعد الحداثة الوجه الثقافي له..

عرض مقالات: