طريق الشعب – لندن (خاص)
يواصل المقهى الثقافي العراقي في لندن حرثه في الحقل الثقافي العراقي ويدعو من هنغاريا الفنان التشكيلي الكاريكارتيريست بسام فرج ليكون ضيفا على أمسيته التي أقامها في التاسع والعشرين من آذار ٢٠١٩ويتولى الفنان التشكيلي العراقي فيصل لعيبي تقديمه لحشد من جمهور الجالية العراقية في لندن .
لكن الأمسية لهذا الشهر لم تبدأ بضيفها وانما بالأحتفاء بيوم المسرح العالمي كما قال السينمائي والمسرحي علي رفيق الذي أكد تقليد تبناه المقهى منذ تأسيسه قبل ثماني سنوات بالتنويه بأهمية هذا اليوم وتلى بيان عام ٢٠١٩الذي كتبه المسرحي الكوبي كارلوس سيلدران بتكليف من المعهد الدولي للمسرح وجاء فيه:
"أعيش الحقيقة المطلقة للحظة سريعة الزوال، عندما يصبح ما نقوله ونفعله تحت نور الأضواء الكاشفة حقيقيا ويعكس أعمق الحنايا من أنفسنا وأكثرها شخصية ، وموطن مسرحي ومسرح الممثلين معي هو وطن منسوج من لحظات نتعرى فيها من كل أقنعتنا ، من المبالغة ، نتعرى ربما مما يمكن أن نكون نحن ونمسك بأيدي بعضنا البعض في الظلام ".
ثم أصطحب الفنان لعيبي ضيفه وإبتدأ أمسية المقهى التي عنوانها " ستون عاما من فن السخرية " قائلا:
"بسام صديق وزميل وفنان عملنا معا منذ الستينات .. تختلط مشاعري الآن .. فخر وإعتزاز وزهو لأن عندي صديق مثل بسام فرج، ويصعب عليّ أن أعطيه حقه بهذه العجالة ..فهو علامة فارقة بالرسم الساخر العراقي ..وهذا الفن له إمتدادات منذ الثلاثينيات والعشرينات".
ثم استعرض الفنان لعيبي الصحافة الكاريكاتيرية او الساخرة في العراق وابرز الرسامين فيها فذكر من تلك الصحف "مرقعة الهندي "و" كناس الشوارع" و"قرندل"وغيرها وإنتهاء بـ "المجرشة".. وهؤلاء الرسامون من أمثال سعاد سليم شقيق جواد سليم ومصطفى طبرة وحتى فائق حسن وعطا صبري وحافظ الدروبي استخدموا الرسم الساخر في صحيفة معروفة هي "حبزبوز" وبعدهم جاء عبقري الرسم الساخر غازي الرسام ، غازي عبدالله، وهو صاحب المجموعة المطبوعة التي رسم فيها الأمثال والأغاني و(البستات) الشعبية بأسلوب شيق ورائع جدا .. وبسام فرج جاء بمنعطف وصل فيه الرسم الساخر في العراق حده ..اي وصل الى جدار توقف عنده، وينبغي عليه اما ان يقفز أو يتراجع ، أي بمعنى يتقهقر ..فالمرحلة الكلاسيكية لهذا الفن كان قد إختتمها غازي برسومه المذهلة التي نعرفها جميعا ..وأكد فيصل على ان :" هناك خطوة يجب ان تحدث فكان بسام هو رائدها وبطلها ومنفذها حقا ، فرسومه هي الرسم الساخر العراقي الحديث " وهنا أشار الفنان لعيبي الى الضيف الجالس الى جنبه وقال:" نعم بدأت هذه الحقبة مع هذا البطل ، هذه القامة العراقية ، الذي كل عراقي ، سواء كان يعرف بسام ام لم يعرفه يفتخر به ".
وأسهب مدير الجلسة بسرد خصائص ضيفه وقال انه ابتكر الشخصية العراقية المعاصرة برسوم بسيطة وبخطوط متقنة وبموضوعات تمس واقع تلك الشخصية ومتطلباتها ، وهنا اختلف تناول بسام في تناول هذه الشخصية عما كان يرسمها الكبير غازي ..وقال ان سمات رسوم بسام امتازت بتبسطه في الخطوط والتوسع في المساحات والإختلاف في الألوان وممارسة تقنيات جديدة ومواكبة التطور التقني الذي كان يأخذ أساليب مختلفة ابتداء باستخدام الشبك واللصق والزنكغراف الى ما وصلته تقنيات اليوم ، اذ كان بسام حريصا طول الوقت على اتقان مهاراته في تلك التقنيات ويواكب على الدوام تطورها.. ويدخل الابتكارات المعاصرة الى الرسم العراقي الساخر ، واكد فيصل على اننا يمكن ان نصنف: " الرسم العراقي الساخر قبل بسام والرسم الساخر بعد بسام ..فمن معطف بسام ظهر الملائكة الجدد مثل مؤيد نعمة ، علي المندلاوي ، منصور البكري ، عبد الرحيم ياسر وآخرون ..".
وتطرق لعيبي الى مضامين رسوم بسام فوصفها بالرسوم الساخرة الجادة ، وعلل هذه الصفة بأنها تأتي من ان صاحبها فنان صاحب موقف ويتبنى قضية وناقد اجتماعي جاد ويسبر أغوار المشكلة السياسية والثقافية والإجتماعية .. وطرح مثالا ما فعله بسام في معالجة قرارات (والي) بغداد السابق آبان فترة النظام البائد التي تتدخل في حريات الناس الشخصية فكان يصبغ سيقان الفتيات ويقص شعور الشباب ، انتقدها بسام برسوم ساخرة رغم قوة النظام وغروره وعنفه .. أتذكر انه رسم شرطيا يمسك فرشاة صبغ عريضة ويحدق بسيقان امرأة تمر امامه .. فكان ذلك الرسم رصاصة حقيقية صوبها بسام الى تلك القرارات القرقوشية .
ثم عرض على الشاشة الكبيرة فيلما قصيرا اعده المقهى عن فن بسام استعرض فيه جانب من حياة بسام عرفنا من خلاله انه ولد في العام ١٩٤٣ في محلة رأس القرية ببغداد لأب كان يعمل في مجال النفط وبحكم ذلك تنقل بسام للعيش أينما ينتقل والده فعاش في البصرة والرمادي وكركوك وعودة الى بغداد ..وهذا ما يفسر دراية بسام العميقة لكل تراب الوطن، ووصف الفيلم الفنان بأنه صياد ماهرللنكته والسخرية والنقد اللاذع ولسان حال لمواطنيه.. وعرض الفيلم حقل آخر من اعمال الفنان فقدم مشهدا من مسلسل عربي للرسوم المتحركة (أفلام الكارتون ) بعنوان (زعتور ) .
بدأ الفنان الضيف حديثه بالإنحناء امام الجمهور شاكرا لهم حضورهم أمسيته الذي قال عنها انه يتمنى عبرها إيصال فكرة بسيطة مفادها ان رسام الكاريكاتير يجب ان يعبر عن طموحات الناس البسطاء في بلادنا خصوصا ان معاناة اليوم أصبحت مضاعفة أكثر من السابق وأشار الى ان :" رسام الكاريكاتير يعاني من ضغوطات من الحكومات المتعاقبة ، والمسؤول يخشاه ،وليس هناك من مسؤول قمت برسمه ، لم يعمل لي مشكلة، ولست وحدي أعاني من ذلك انما أغلب زملائي الرسامين في بلدنا الآن ، الذين أضطر الكثير منهم الى الهجرة، لوجود تقييدات عليهم ، والى قبل فترة وجيزة أعتقل الرسام عبد الحليم ياسر وأودعوه السجن لأنه رسم كاريكاتيرا لا يعجب المسؤولين ..ولم يجر إطلاق سراحه إلا بعد احتجاجات كبيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ..وجرى اعتداء على الفنان سلمان عبد بعد أن أقام معرضا ، فدخلوا عنوة للمعرض أضطر بعض الناس تهريبه من الباب الخلفي لكن المهاجمين كسروا لوحات المعرض ،بعد ان فشلوا في تنفيذ الأوامر بإعتقاله..ورسام آخر وهو الراحل أحمد الربيعي هجموا على الصحيفة التي يعمل فيها بالسلاح وأرادوا قتله لأنه رسم كاريكاتيرا ينتقد شخصية إيرانية مما أضطره للهرب الى شمال العراق ولأنه كان يعاني من مرض القلب فوافاه الأجل هناك ".
وواصل بسام استعراض ما يمارس ضد الرسامين .. الذين ينتقدون الاوضاع السلبية في المجتمع .. وتحدث عن بدء علاقته برسم الكاريكاتير وقال انه كان معجبا برسوم غازي وحميد المحل وعلي فتال وما تنشره جريدة "البلاد" ومنذ ١٩٦٤ بعد خروجه من المعتقل في العبخانة بعد انقلاب شباط ١٩٦٣ وكرد فعل لما واجهه من عسف في الإعتقال اتجه الى الرسم أولا في مجلة "القنديل" وكانت رسومه دون مقابل لكنه انتقل للنشر في مجلة "المتفرج" وفيها كانوا يدفعون له "١٥٠"فلسا للرسم الداخلي وللغلاف "٢٠٠" فلس ثم انتقل الى جريدة "صوت العرب" وفي مجلة "أهل النفط" حدثت له مشكلة لانه رسم مدير شركة النفط واسمه هالي دالي حيث رسمه يرقص تشبها برقصة "هالي غالي"المشهورة آنذاك..
ثم تحدث النقلة النوعية بتأسيس مجلة "الف باء" للفترة ٦٨-١٩٧٤.. وبعدها سافر للدراسة في هنغاريا مبعوثا من نقابة الصحفيين العراقيين على حساب منظمة الصحفيين العالمية .. وبعد أن انهى دراسته عاد الى بغداد لكنه وجد الجو ملبدا بغيوم حالكة تنذر بالهجوم على القوى الوطنية والديمقراطية فقرر الهجرة ومنذ ١٩٨٧ للآن يعيش في المنفى لكنه هناك واصل الرسم ونشر في صحافة المعارضة خارج العراق ومن بينها "المجرشة" التي صدرت في لندن وكان للرسام هناك الحرية الكاملة في التعبير وعمل في نفس الوقت في شركات أفلام الرسوم المتحركة وفي هذا المجال عمل لسنوات عديدة في التلفزيون المجري .. وبعد ٢٠٠٣ كان ينشر في الصحافة العراقية ومنذ عشر سنوات يرسم بشكل يومي ودون انقطاع في صحيفة "المدى " البغدادية .
أكد بسام فرج في حديثه ان السلطات دائما تحذر بل تتخوف من رسام الكاريكاتير لأن رسومه تثير القاريء علاوة على ان افكاره الانتقادية تصل بسرعة للجمهور واضاف "لانه من جانبه يساهم في نشر الوعي بين الناس ويحثهم على المطالبة بحقوقهم ، في حين تسعى السلطات الى تجهيل الناس ، وهنا يحصل التعارض بين السلطات ورسام الكاريكاتير"
وعلى مدى ربع ساعة عرض المقهى فيلما على الشاشة احتوى على نماذج من الرسوم الكاريكاتيرية التي نفذها بسام فرج والتي احتوت على مواضيع شتى يعاني منها الوطن من بينها المحاصصة والطائفية ونقص الخدمات وانتشار الأمية والبطالة والنقص المريع بالخدمات الصحية والماء والكهرباء واستشراء الفساد المالي والإداري وسيادة المحسوبية والرشوة ونهب المال العام وتردي التعليم ...الخ.
ثم تحدث عن تجربته مع فنانين آخرين في رسوم الأطفال في "مجلتي" و "المزمار" وكيف استقبلها أطفال العراق وتركهم القراءة للصحافة المشابهة المصرية مثلا . وعن هذا الموضوع علق الفنان لعيبي ان نجاح "مجلتي" تجلى في ان رساميها تميزوا بعدم تقليدهم للمجلات الغربية وقال لو تصفحنا المجلات المصرية مثل "السندباد" وغيرها كانت فيها رسوم (ميكي ماوس واليس في بلاد العجائب ...الخ) في حين قدم رسامونا في " مجلتي " شخصيات وموضوعات عراقية . لكنه استدرك قائلا :" قد أكون انا الوحيد الذي قلدت شخصية السندباد التي كان يرسمها الفنان المصري حسين بيكار".
حظيت الأمسية بمداخلات من القاعة وتساؤلات كثيرة بدأها صديق الفنان الكاتب والمترجم عبدالإله النعيمي فقال :" بسام كان يواجه في عمله ثلاثة تحديات أولها نقل نبض الشارع وان يجمع بين الضربة-المفارقة الساخرة والموقف النقدي ، وكان ناجحا في ذلك لامتلاكه الحس المرهف وموهبته وثانيا التحايل على الرقيب (الذي كان يجلس معه في مجلة "الف باء") فهو كان يمشي على حبل رفيع جدا فكان يمارس التوازن بين إرضاء ضميره وجمهوره وبين اتقاء شر الرقيب وكان أحيانا يراهن على غباء الرقيب .اما التحدي الثالث والذي كنا نعتبره الأهم هو كيف كان بسام يقدم صفحته في موعدها لكنه رغم قلقه وتباطؤه كان يسلم مادته في موعدها فيما عدا مرة واحدة عندما اعتدى علينا البعثيين فكان نصيبه انهم جدعوا أنفه وكان نصيبي قطع أذني فنقلنا الى المستشفى انا أبقوني للعلاج لأن الأطباء كانوا غير متأكدين من أنهم سيستطيعون ارجاع اذني الى مكانها وضمدوا أنف بسام وأخرجوه فخرجت مجلة "الف باء" خالية من رسم بسام لكنهم نشروا في صفحته صورة وجه بسام ملفوفا بالضمادات وتلك المرة الوحيدة التي لم يسلم فيها مادته في موعدها". ثم قدم الأستاذ عبد الرحمن أبو زينة مداخلة حول البيئة الخطرة التي يعمل بها الفنان وتغيب فيها الحرية وتساءل على ماذا يركز الفنان ليجلب المشاهد الى منتوجه هل اللون ام الفكرة ام الهدف ام ماذا ؟ أجاب بسام انه كثيرا ما يتعرض الى تساؤل اين يجد الفكرة وكيف يبحث عنها وقال انه يجيب دائما ان البيئة تطرح كل الأفكار التي هي نفسها تنادي الفنان لكي يتناولها . ثم قدم الأستاذ صباح يعقوب ملاحظته حول شجاعة رسوم بسام سواء ابان نظام البعث ام فيما بعده لكنه يلاحظ انه لم يتعرض الى المقدس الذي يستخدم الان في غير محله؟ اما الدكتور صباح جمال الدين فعبر عن سعادته بحضور الأمسية وتساءل لماذا لم يطبع الفنان كتابا لرسومه فتمت اجابته بانه قد أصدر قبل كم شهر البوما طبع في بيروت لرسوماته .. وانه نفد في أسواق بغداد وهناك نية لأعادة طبعه . وأشار الدكتور علي شوكت انه عايش بسام لعشرين عاما في المجر ولاحظ ان الظروف الصعبة لم تثنه عن مواصلة التحديات وخاصة الظروف الأقتصادية ولم يتنازل عن موقفه ومبادئه اما الناشطة سوسن طبلة فقد سألت :هل تجاوز في رسومه موضوعات غير عراقية ؟ أكد بسام انه رسام عراقي لا يهمه مشاكل الآخرين وأشار الأستاذ مالك أبو اينار الى قلة تناول شخصية المرأة في رسوم الفنان وكذلك الشخصيات الكردية وشبه الأستاذ سليم ان رسام الكاريكاتير اشبه بالجراح الذي يعالج الناس وطرح سؤالا هو هل يتناول الكاريكاتير المظاهر السلبية فقط ؟ أي لماذا يجري الأهتمام بالكوميديا السوداء ؟ أشار الفنان الى ان رسومه كثيرا ما يسمع من القراء ان رسومه لا تثير الضحك فقال ان الوضع مأساوي بامتياز وليس من إيجابيات للأسف وأشار الأستاذ قحطان بأهمية استعمال التكنولوجيا ووسائل الثورة المعلوماتية واقترح على الفنان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر انتاجه لتصل الى أوسع جمهور .
انتهت الأمسية التي امتازت بالحيوية والتفاعل من جمهورها وكانت فعلا مفيدة ولا بد من الأشارة الى ما نوه عنه فيصل على ان آلالاف يتابعون الأمسية عبر البث الحي الذي يقوم فيه السيد سمير طبلة عبر صفحته في الفيسبوك ..والذي يعمل عليه المقهى منذ أشهر ويعيد نشر ذلك على صفحته على الفيسبوك وعنوانها بالعربية "المقهى الثقافي العراقي في لندن".