افتتح الحزب الشيوعي العراقي السبت الماضي احتفالاته بذكرى تأسيسه الـ 85 بالاحتفاء بالمبدع الكاتب والروائي زهير الجزائري. وجرت جلسة الاحتفاء في قاعة "بيتنا الثقافي" ببغداد، وشارك فيها حشد من الشخصيات الثقافية والمواطنين المعنيين بالآداب والفنون والفكر.  وقد استمع الجميع باهتمام الى كلمات ومداخلات متنوعة ومتميزة، نقدم اليوم على هذه الصفحة نصوصها او مقتطفات منها.""

كلمة الحزب الشيوعي قدمها عضو لجنته المركزية  الرفيق رضا الظاهر

الحضور الأعزاء:

طاب صباحكم بالخير والسلام ..

أحييكم في هذا اليوم الربيعي، في حفلنا التكريمي الذي تقيمه اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي العراقي، احتفاء برفيقنا العزيز المبدع الكاتب والروائي والباحث والصحفي زهير الجزائري، وهو احتفاء موشّى بدلالة الاقتران بالذكرى الخامسة والثمانين لتأسيس حزبنا التي تحل بعد أيام.

واذ نحتفي اليوم بأبي نصير، فانما نحتفي بالابداع الأدبي الأصيل، وبالفكر التنويري، والقيم الجمالية الرفيعة، والسيرة الكفاحية الملهمة التي انطوت عليها حياته المفعمة بالعذابات والتحديات والآمال.

ما بين فرات الكوفة ودجلة بغداد يمتد طريق رحب اغتنت روافده من عنفوان الشاب القادم من النجف، المدينة المليئة بالتناقضات وعراقة التاريخ وصراع الفكر، لينغمر في بغداد، وسط أجواء تفاعل الثقافات والخيبات والاحتجاجات، وأشواق الجيل الستيني المتمرد.

مضى زهير الجزائري من هتاف المقاومة الفلسطينية ونور "طريق الشعب" ونسائم كردستان وأوراقها الجبلية، مروراً بياسمين الشام وموجات التايمز الوئيدة، حتى رياح العودة الى بغداد..

في عقد الثمانينات كان زهير الجزائري يصوغ، مع رفاقه الأنصار في جبال ووديان كردستان، ملحمة بطولية عراقية، ظل الشيوعيون، على الدوام، حملة راياتها في الضمائر، ومشاعلها وهي تنير الدروب.

ولعل تجربة العمل في "طريق الشعب" في عقد السبعينات تظل التجربة الأغنى والأكثر تميزاً في إنضاج اتجاهات السياسة والثقافة الفنية لهذا المبدع الشيوعي الذي تحول الى معلّم في الحياة وفي الرواية.

ففي كل عمل من أعماله، ابتداء من (المغارة والسهل) حتى (باب الفرج) كان الجزائري مهاجراً في الواقع، ومهاجراً في المخيلة. وفي دروب هذه الهجرة المديدة قدم لنا لوحات مفعمة بالحياة عن جيل الستينات، ومجازر أيلول الأسود، وجمهورية الفاكهاني، وتل الزعتر، والأوراق الجبلية .. وكان موضوع الحرب والاستبداد يحتل مكانته المميزة في هذا السجل الروائي والبحثي العميق والمضيء، متجلياً، من بين أعمال أخرى، في (أوراق شاهد حرب) وفي (المستبد: صناعة قائد، صناعة شعب).

وفي (حرب العاجز: سيرة عائد، سيرة بلد) يصور الجزائري عودته الى البلاد المفعمة بالتناقضات، والمثقلة بالآلام، والمحدّقة، عبر أنفاق لا تحصى، ببصيص أمل بعيد .. يعود الجزائري منقّباً في (ذاكرة النجف)، وفاتحاً (باب الفرج).

والساطع من بين انجازاته جماليات الفن الروائي، والبحث عن الحقيقة، وتحدي السائد .. ومهاجر المخيلة هذا يعبر الحدود، ابداعياً وجغرافياً، من الرواية الى البحث، ومن النقد الى الصحافة. وحين نقرأه صحفياً يصعب علينا أن نفصله عن الروائي، فهذا الحكواتي، جذاب الحديث، طريفه، صحفي يرتدي ثياب روائي .. وحين يكون وسط المحتجين، فانما يقدم مثالاً ساطعاً عن فعل المثقف في الحركة الاجتماعية.

وزهير الجزائري يحاول أن يجمع أجزاء الحياة الضائعة لضحايا الحروب والاستبداد، ويعيد اكتشاف ذاكرة المعذبين، ويضيء عواقب الخاسرين. فهو لا يكتب عن تجربة القتال بقدر ما يكتب عن تأثيرات الحرب على حياة الناس .. عن مصائر الضحايا، أولئك الذين أرغمتهم الحرب على الاخفاق في العودة الى بيوتهم، وأرغمهم الجلاد على العزلة والدمار السايكولوجي.

انه يجمع الضدّين، فيأخذ، من خلال المجاز الجمالي، عذابات الضحايا الى ينابيع المستقبل.

زهير الجزائري .. قدمتَ، وماتزال، أمثولة للمناضل والمثقف والمبدع الشيوعي .. وألهمت، بسيرتك الكفاحية وانجازك الفني، أجيالاً تواصل المسير تحت راية القيم السامية التي استرشدت بها طيلة حياتك ..

نحن رفاق دربك .. بك نحتفي .. ونفتخر .. ونعلم أن طريقاً تمضي فيه معنا، بخطوات واثقة آملة، لابد مفضٍ الى ضفاف العراق .. وغده الوضاء !

السلام عليكم ..

صناعة الطاغية ميتا سردياً قراءة في رواية (الخائف والمخيف) / فاضل ثامر

تكشف رواية "الخائف والمخيف" للروائي زهير الجزائري الصادرة عام 2003 في دمشق، عن جوهرها الميتا سردي من خلال شخصية البطل المركزي، السارد الرئيس لأحداث الرواية، والذي يحمل اسم (وليد) وهو الاسم المفضل لبطل زهير الجزائري في معظم ما كتب، وبشكل خاص في روايته المبكرة "المغارة والسهل" الصادرة عام 1976 في بغداد والتي كانت تدور حول المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن روايته اللاحقة "حافة القيامة" التي سنشير إليها.

ونجد هذا البطل منشغلاً منذ البداية بهمّ أساسي هو الكتابة، وتحديداً الرغبة في كتابة رواية يعيش أحداثها بعد أن أحس بالخواء والجفاف أثناء إقامته خارج العراق، ولذا نراه مشتبكاً مع أحداث عراقية وعربية شهدها العراق في سبعينيات القرن الماضي منها صعود نجم (السيد النائب) صدام حسين، والأفول التدريجي لشخصية احمد حسن البكر، رئيس الجمهورية آنذاك وتواصل أعمال القمع السياسي ضد القوى السياسية الإسلامية واليسارية المناهضة لسياسة النظام الدكتاتوري آنذاك.

وهناك حدث مركزي أثار رعب الناس خلال عامي 73 ـ 1974 يتمثل في ظهور سفاح دموي كان يقتل ضحاياه باستخدام "الطبر" وعرف باسم (أبو طبر) وقد اقضّ مضاجع الناس آنذاك، وكان هناك من يرى فيه لعبة سياسية من لعب النظام لإرهاب الناس، بينما يرى آخرون انه مجرد قاتل عصابي متعطش للدماء.

لقد اعتمد الروائي في تقنيته الميتا سردية في بناء الحدث الروائي على توظيف اللغة السينمائية بمعناها الواسع، وبشكل أساسي من خلال تقنية السيناريو السينمائي الذي يعمد إلى خلق مشاهد ولوحات (تابلوهات) بصرية حية بعيداً عن تدخل المؤلف، يكون فيها الدور الأكبر للعين الباصرة، أو لعين الكاميرا بشكل أدق. وقد اعترف وليد ـ سارد الراوية مع نفسه عن هذا المنحنى في التقاطه وتناوله للأحداث التي يدون تفاصيلها، فهو يتحدث عن "المخرج السينمائي الذي يدعي انه تعود أن يرى الأشياء من وراء عدسة كاميرا بسلسلة كوادر سينمائية مقتطعة من الزمن ومن سياق الحياة.

إن هذا المنحى السينمائي الذي يدون فيه المشاهد بمراقبة محايدة وباردة وساخرة أحياناً والذي قال عنه "آخذاً موقع مراقب لئيم بتتبع شخصياته من ذلك الوعي الشفاف الذي يسبق السكر".

وخلال كل ذلك ظل هم الكتابة، وتحديداً كتابة الرواية هو الهم المركزي الذي كان يشغل بال البطل وليد، الذي كان يفكر بكل التفاصيل الدقيقة الخاصة باللعبة السردية ومنها اختيار الضمائر السردية.

"بدأ وليد الكتابة كمن يعيد تصنيع الجريمة بيديه يكتب ثم يتوقف متسائلاً:

" أيبدأ بضمير المتكلم؟".

لكنه يشعر بتدخل ذات ثانية ربما قرينه الذي يحذره من أن ذلك قد يعود إلى فضحه ولذا يقترح عليه أن يغير مجرى الكتابة إلى ضمير الغائب.

ونجد وليد متردداً أمام الورقة البيضاء وهو يستهل روايته بجملة مناسبة:" عاد وليد إلى طاولته وهو يتنفس، فباغته عرى الورقة الأبيض الذي ينتظر، وقد جاءت فكرته كالصرخة: بها سأبدأ الرواية: صرخة غامضة مزقت الليل"، لنكتشف أن وليد بطل الراوية إنما كان يعكف على كتابة رواية "الخائف والمخيف" ذاتها.

خلال هذا الرصد السينمائي، كان الفعل السياسي حاضراًَ عبر نشاطات الأجهزة الأمنية والاستخبارية والصراع المستفحل على السلطة والتمهيد لصعود الرئيس الجديد بلعبة دراماتيكية مثيرة اقترحها وصممها الدكتور أكرم نور الدين ـ وشعر وليد خلالها بأن الفكرة قد سرقت منه ـ والفكرة  تعتمد مبدأ "التغريب" البريختي، حيث يعلن التلفزيون عن بيان مهم يظهر فيه الرئيس أو القائد الجديد رافعاً سيفه علامة النصر وباليد الأخرى رأس السفاح وليعلن للناس أن السفاح قد انتهى وبإمكان الناس ان يناموا بهدوء، وهذه الصورة تذكرنا بألوان من الموروثات الحكائية الشعبية مثل قصة أبي زيد الهلالي والصور التي تمثلها في مشاهد مماثلة، والمؤلف حاول من خلال التغريب، ونقل المشهد المعاصر إلى فضاء تغريبي تاريخي أو ميثولوجي، أن يضفي لوناً من الغرائبية على الفعل الروائي، مركزاً الضوء على أسرار اللعبة السياسية وآليات صناعة الطاغية التي توقف عندها الروائي زهير الجزائري في كتاب بحثي مستقل، وسوف نكتشف لاحقاً أن قصة القائد الذي يحمل رأس السفاح بيد والسيف باليد الأخرى هي قصة سبق لوليد أن نشرها قبيل صعود القائد الجديد، لكنها كما يبدو أثارت إعجاب هذا القائد، ولفتت اهتمام الدكتور نور الدين الذي أعاد إنتاجها إعلامياً بالصوت والصورة، لتقديم القائد الجديد في هالة من البطولة المباغتة والصادمة لوعي المواطن العادي، وفي الوقت ذاته اثارت خوف هذا المواطن وتردده إذا ما حاول عبور الخطوط الحمر التي تمس القائد الجديد ونظامه. والحقيقة أن المؤلف نجح في هذه الرواية في تقديم تشريح كامل للنظرية السياسية والأمنية للقائد/ الطاغية من خلال اعتماد ثنائية الخائف/ المخيف التي سبق وان قرأناها لأول مرة بشكل عابر في رواية "صخرة طانيوس" لأمين معلوف عند الإشارة إلى الأمير الذي نزعت صلاحياته وطلب منه المغادرة الى المنفى، لكن المؤلف هنا يطور هذه الثنائية إلى فلسفة سياسية كاملة، ربما تذكر بكتاب الأمير لميكافيللي، كما أنها تتحول إلى عنوان للرواية ذاتها، إذ ترسم هذه الفلسفة السياسية خطة لترويض المواطنين من خلال إثارة الشعور بالرهبة والخوف وفي الوقت ذاته، يظهر أن الطاغية ذاته كان في آن واحد مخيفاً للآخرين، وخائفاً في أعماقه إذ يكشف الطاغية الجديد وهاب المولى، الذي هو كناية عن صدام حسين في مونولوغ طويل عن هذه الثنائية، التي ترى: إن الخوف أكثر دواماً من الحب " فالأتباع يحبون بإرادتهم ويخافون بإرادة المخيف" وعندما كان وليد يتطلع إلى الوزير بدا له "خائفاً أكثر مما هو مخيف". ونجد أن يعقوب كبير المحققين وفلاسفة عنف الدولة يقترح على وهاب الطاغية الصاعد" أن يقدم الخوف على جرعات بينها فترة استراحة". هذا ويمكن أن نقول إن جذور هذه الفلسفة كانت قد بدأت في الاتضاح والتبلور في رواية المؤلف السابقة "حافة القيامة" حيث نجد الشخصيات ذاتها على خشبة المسرح عندما يعلن المحقق يعقوب فلسفته في دلالة الخوف: "بالتخويف والتخويف وحده ستحول صناع الجرائد إلى كلاب صيد".

لكن فلسفة ثنائية الخائف والمخيف تصبح سياسة مطبقة فعلاً من قبل الدولة في رواية "الخائف والمخيف".

وإذا ما كانت الرواية في بدايتها تركز على ملاحقة أصداء الجرائم الدموية التي كان ينفذها سفاح غامض عرف باسم (أبو طبر) في مطلع سبعينيات القرن الماضي، بحيث أصبحت الصرخة هي ضابط إيقاع الحدث الروائي، فإنها سرعان ما تنهمك بمتابعة صعود شخصية الطاغية الجديد، وبذا تتحول الرواية بمجملها الى محاولة لكتابة سيرة ذلك الطاغية، والواقع أن كبير المحققين والجلادين يعقوب يطلب منه صراحة الالتقاء بالرئيس الجديد الذي يرغب في أن يكتب وليد سيرته.

وإذ يستقبل وليد هذا الطلب بمزيج من الرعب والاحتقار لكنه أدرك استحالة رفض ذلك الطلب، لذا يواصل البحث والتقصي وجمع البيانات الضرورية التي قادت إلى صناعة القائد الطاغية، وقرر مع نفسه أن يكتب السيرة كما يراها، "لا تتوقع أن اكتب سيرتك كما هي، إنما كما أراها أنا. وخلال عملية الكتابة كان يفكر في كيفية رسم هذه الشخصية والكشف عن دخائلها الغامضة، لكنه أدرك  أن صورة هذا القائد الجديد لا يمكن أن ترتبط بزمان ومكان "سأطلقك خارج الزمان والمكان".

ونكتشف أن علاقة وليد بالمحقق يعقوب أقوى مما نتخيل، فقد وجدناه في الرواية السابقة "حافة الهاوية" يقترح عليه الهرب خارج العراق، بعد أن أحس أن حياته في خطر، فيعدّ له جواز سفر مزور باسم (مجيد الفرحان) وهو تاجر أدوات احتياطية.

كما يعود وليد في رواية "الخائف والمخيف" بإغراء من المحقق يعقوب نفسه لكي يكون الكاهن الذي يسمع اعترافاته ويمنحه الغفران أولاً وليطلب منه لاحقاً كتابة سيرة  الرئيس الطاغية. ومنذ عودته إلى الوطن  يحس بالندم "ومرة أخرى لامَ وليد نفسه على العودة لبلدٍ يعيش على حافة القيامة".

وواضح هنا أن عبارة "حافة القيامة " هي إحالة إلى اسم روايته السابقة التي صدرت عام 1998 أي قبل رواية "الخائف والمخيف" بخمس سنوات، إذ نجد في تلك الرواية الشكل الجنيني الأول لرواية "الخائف والمخيف" حيث نجد الشخصيات الأساسية ذاتها، كما يضطلع وليد أيضاً بدور الروائي الذي يدون الأحداث ويعيشها أيضا حيث نتابع صعود نجم الطاغية الجديد (وهاب) أو عبد الوهاب المولى الذي هو كناية عن صدام حسين، كما نجد شخصية ابن عمه (مجيد) وأسماء ورموزا معروفة في المشهد السياسي العراقي، ولذا يمكن أن تعد رواية "حافة القيامة" جزءاً أول في سلسلة روائية قد تكون ثلاثية عن صعود شخصية الطاغية العربي الى الحكم، وقد تكون تلك الرواية بمثابة (بروفة) اولى لإعادة كتابة رواية "الخائف والمخيف" بصورة أوسع واشمل وبمهارة ميتا - سردية وتجريبية متقدمة.

ويمكن القول أن عناصر التشابه والتواصل كثيرة بين الروايتين، كما أنهما تحملان إشارات سياسية  متشابهة منها الإشارة الى وجود دور للقوى العظمى في صعود شخصية الطاغية، حيث نجد في رواية "حافة القيامة" إشارة الى السير (لويس براون) السفير البريطاني السابق في الشرق الأوسط الذي عيّن آنذاك مديراً للمخابرات البريطانية، كما تتكرر الإشارة إليه في رواية "الخائف والمخيف" بوصفه الصانع الحقيقي للأحداث في البلاد، فبعد مقتل الشبيه نقرأ القول الآتي:

"لا الشبيه ولا الأصل، انه مجرد دمية، الذي يحكم البلد هو السير لويس براون".

ــــــــــــــــــــــ

* رواية زهير الجزائري "الخائف والمخيف" تشريح لصناعة الطاغية، وهي أيضاً تشريح لمجتمع يسحقه الطغيان.

كلمة النقابة الوطنية للصحفيين قدمها رئيسها السابق عبد المنعم الأعسم

الحضور الكرام

أصدقاء ورفاق وأحبة زهير الجزائري في النقابة الوطنية للصحفيين، بمجلسها واعضائها وانصارها وعمق ما تمثله في الوجدان الصحفي العراقي، نشارككم هذا الاحتفال والاحتفاء بزميلنا العزيز زهير الجزائري الذي نضعه في صدارة المؤسسين والمتبنين لمشروعنا، مشروع التعددية النقابية ورد الاعتبار لسمعة المهنة وروادها والعاملين في اقنيتها وعناوينها.

زهير الجزائري إذا ما تحدثنا عن سيرته الصحفية سنضعه في قلب تلك الكوكبة التي جعلت من العمل الصحفي رسالة بكل ما تعنيه كلمة رسالة من معنى. فقد مارسها على خطوط النيران والمواجهات واصوات المدافع في حرب المقاومة الفلسطينية في مطلع السبعينات، وفي ثورة ظفار والجمهورية الصحراوية ومعارك بيروت، وانخرط في قتال الدكتاتورية ضمن حركة الانصار، وقد التقط جمرات مادته الصحفية من لهيب هذه المعارك واقتطف منها انتباهات نيرة في اعماله الروائية، واستحق بكل جدارة ان يسمى زهير الجزائري الاديب الصحفي، او الصحفي الاديب، مبدعا وخلاقاً وصاحب مواقف طليعية وبصمة لا تنطفئ. بل انه وظف هذه الخبرة النيرة حينما ادار مؤسسات ووكالات انباء وصحف داخل العراق وخارجه.

سرديات عائد بعد غياب طويل / ناجح المعموري

كنت قد أطلقت على كتاب الروائي زهير الجزائري "حرب العائد" سيرة عائد. سيرة بلد وقد أهداني نسخة منه في عينكاوا. وابتدأت علاقتي مع مرويات الذاكرة الحيّة، اليقظة لكل ما تنطوي عليه من جمال وهو يتابع لحظات هاربة اختطها الماضي، لكنها ظلت حيّة، مشحونة بالزهو، لذا بقيت يقظاً حتى الفجر أقرأ سرديات الحنين واستعادة الحكايات والمرويات وتحفيز خزانة واجهت تاريخاً عتياً، مظلماً، واسود، لكن زهير الجزائري عارف كيفية استدراج الذاكرة الشخصية وتحشدها، ينزع عنها ما لا يريده، لأنه يفكر بالكاميرا والصورة السينمائية. ودائماً ما اكتشفت بان ظهير الجزائري يقدم توصيفاً سردياً فياض بالشعرية، وهو ايضاً يتخيل الكاميرا وزاوية الالتقاط وكيفية إقامة علاقة مع المشهد الذاهب اليه، أي معنى مكتشف لمخفياته واسراره. الصورة تسجل بعضاً وتترك شيئاً آخر، والعين المتسللة خبيرة بالمحتفي والكامن وراء ما التقطته العدسة. الهاربة العالية التي توفرت لدى زهير الجزائري جعلته ممتلكاً معرفة بأسرار الركض والنزول بهدوء الى اعماق غابت الآن، السنوات قشّرتها وزاولت عليها الطي.

زهير دائماً ما يبحث وراء المعنى والذي في الان نفسه يكشف عن تعدد للمعاني والسبب أن الانسان موجود في المعنى، وهنا امتلاكات السرد لخفايا الكائن الذي تسترت عليه اللغة، لغة السرد/ الكتابة وايضاً الصورة. والمعنى الذي التقطه زهير الجزائري فياض بالسعادة لأنه استطاع ان يتواصل الى بياض الكينونة المميزة للكائن. انسانية الانسان، هي الروح الراكض وراءها من يتعاطى ممارسة كتابة الانواع الادبية والنية. الكائن يكفي زهير بما يوفره للآخر والعلاقة مع الصورة تكشط المحذور وتستعين بما هو متوفر من الحواس التي تقود نحو فضاء السرد القصصي او الصور يؤكد حقيقة الآدمي ذلك ان الدال لا يحمل على المدلول يوازيه بشكل مباشر، وانما يفعل ذلك استناداً الى سلسلة من الحلقات المجازية التي بإمكانها وحدها الربط بين الصورة ومدلولها في بنية جديدة هي ما يسميه الحلم، أن خلق علاقة بين المضمون الظاهر والمضمون الخفي/ سعيد بنكراد/ تجليات الصورة/ المركز الثقافي للكتاب/ 2019 ص47.

هذا هو المعبر عن لحظة رؤية المكان عارياً، فاقداً لأهم سوابقه، وظهر عند معاينة زهير له وكأنه عارٍ، لا شيء يستره، بعد ملوثات قوات الاحتلال.

وأنا أقرأ هذه السيرة المدهشة والتي ما زالت حتى هذه اللحظة فاعلة وكأني قرأتها قبل قليل وأهم ملاحظة شغلتني وأثارت في نفسي مخاوف عن التورط مع تجربة سردية ثنائية الاداء، تستدعي الدقة والخفة في توظيف الحواس لعقد مقارنة آنية بين المكتوب والمصور. لأن اعتماد زهير على بناء سردي جديد كانت علاقة بعض الاصدقاء في كتاب القصة معه هادئة، لا بل باردة وكأنها ارادت امتصاص حماسي ودهشتي. ملاحظة لا كان عن لحظة تحديد وبنية الحلم في هذه السيرة، هي لحظة زئبقية، فيها صحو، وفيها عتمة، وعلى المتلقي لمس الروح المتبعثرة في السرديات، فالعدسة لا تغيب الكتابة وبالعكس هذه هي بنية الحلم اللامكاني وثنائية المضمون الصاعد والآخر النازل. وقد عبر زهير الجزائري عن ذلك بوضوح ودقة: وجعنا يستدير الماء حول فرش البردي وهناك يلتوي النهر ليقابل كرة النار الهائلة عند الغروب، هنا الشناشيل البغدادية المائلة على النهر في قبلة لا تنقطع ابداً تحتها صبية بأجساد نحيلة ينتظرون اقتراب الكاميرا ليقفزوا الى الماء وسط دوائر من الموج.. تُحار الكاميرا أين تتجه وماذا تتجاهل، وكل ما نراه صدفة عابرة ونجهل المطلق والقابل للتكرار على أمل ان نأتيه مرة ثانية غير دارين باننا نحن والظرف المحيط سنتغير عما قريب ولن يتاح للكاميرا أن تتحرك الا في حيز ضيق.

وفي وقت قصير محفوف بالخطر "زهير الجزائري؟ حرب العاجز دار الساقي 2009 ص33 واحد من مشاهد مثيرة كثيرة جداً. اللغة الشعرية ايقظت المدونة والمصورة، تجعل منهما مكوناً واحداً، قادراً على التعبير عن العصي والمدمر. هذا كله جعلته اللغة سهل الحضور وطاقة هيمنة تمكنه من الانفتاح للتأويل. وفي هذا المشهد السردي المثير للدهشة وصحوة المراقبة الراصدة، جعل مني متلقياً مجاوراً ومتحاوراً مع زهير. الاختيار المشهدي.

المتلقي الفاحص لا يقوى مطلقاً على تجريد المشهد السردي من طاقته الصورية الملتقطة بدقة متناهية، هي شريط مدهش، ينفتح على تعدد معنى، تولد له عبر الفضاء الملتقط على وجوده وارتباطه بالنهر المقترن بالطاقة الرمزية الكبرى التي تتمتع بها بغداد. وقيل إن هذا المشهد يثير في اعماق الكائن سلسلة من التداعيات. ان الصورة الفوتوغرافية، دالة في حدود وجود خزان من المواقف المتكونة يشكل جميعها عناصر جاهزة للدلالة هي جزء من السلوك الثقافي.

المعنى المتعالي للمشهد النهري وسيادة الماء وسط اجواء الاحتراق يمثل الطاقة الرمزية الجوهرية في التأويل بوصفه الماء. هذه القوة العالية القادرة على اطفاء النار واشتعالاتها مثلما هو الطاقة الرمزية المبكرة في الحضارات الشرقية لتخصيب الحياة وتجديد الانبعاث تحدياً للموت الجماعي.

الانتقال الى مدينة النجف مرحلة مهمة في سيرة العائد لأن للمدينة قدسيتها وخصوصيتها، ربما توفر او لا توفر للتصوير لان ظهور الكاميرا مصدر شؤم للمواطن العادي، فوجود الكاميرا يعني وجود خطر، تفجيرا او قتالا او حدثا خطيرا كما يكشف التلفزيون، لذا تكون لدى الناس شعور عدائي تجاه الصورة الراسخة في الذاكرة. استعادة وظائف الغرفة قبل سنوات كثيرة. العلاقة مع المكان النجفي متناوب بين ثقافة القداسة وتأثيرها وبين الحضور الابدي للمقدس وايضا الاشتباك التاريخي بين التيار المدني والسياسي. لكن القاص والروائي زهير الجزائري استطاع تقديم كتاب سردي عن ذاكرة القداسة والمدينة في مدينة النجف الذاكرة والمدينة. ونلاحظ انه منشغل كليا بالذاكرة التي تعني الصورة بعضا جوهرياً منها وهذا ما كشفت عنه الفوتوغرافيات المنشورة ضمن الكتاب. وهذه السردية ذاكرة مغايرة انفتحت على النجف ومحيطها ونشوء التيارات الثقافية والسياسية مع توصيف للجدل فيها بين الافراد والجماعات. استعاد المحلات سرديا ووثقها بالصورة ليؤمن لنا استحالة محو هذه الاماكن، حتى وان اندثرت فان مثالها باق للأزل.

حديث زهير الجزائري عن أن حداثة النجف متطرفة كثيراً وان تميزت بفترة زمنية سابقة، لكن حاضرها لم يكن أكثر تميزاً بالعلاقة مع الحداثة ولا اعتقد ان معرفة كولن ولسن وحدها كافية للدلالة على حداثة المرحوم حميد المطبعي لأنه لم يترك غير الاعمال التي بإمكان شخص آخر اعدادها، ولا بد من الاشارة الى ان المطبعي من شعراء قصيدة النثر ولا اظن بانه ترك اثرا في هذا المجال.

تحية للصديق المبدع الذي تعرفت عليه وتعلمت منه الكثير اثناء عملي بالمكتب الصحفي الحزبي لـ "طريق الشعب".. الاحتفاء به تأخر .. لماذا؟!

ابن النجف يفتش عن الربيع في ساحات بغداد / حسام السراي

اشياء محدودة يتذكرها زهير الجزائري من طفولته في مدينة النجف، هدوء الاب "العلماني" المحتفظ بثقافة دينية ومكتبته التي تمزج بين العلمانية والدين، لا تزال عالقة في باله، وكذلك عصبية امه ايضاً.

كانت المناسبات الدينية تلهب حماسته، خصوصا عندما تتخللها قراءات شعر، الشعر العمودي في طريقة القائه، والقصص الدينية والجلوس امام المنبر الحسيني، هي التي كونت بدايات الخيال الروائي عندي.

النشأة في محيط مليء بالأساطير لها وقعها في هؤلاء الذين أصبحوا كتّاباً مشهورين لاحقاً، الامر الذي افضى مع الجزائري الى ترك كتابة الشعر ليتجه الى عالم القص، منفذاً تصوره الشخصي: "ما الذي كنت سأضيفه الى تجارب أصدقائي الشعراء لو أصبحت مثلهم؟".

من المفارقات التي لازمت صباه مدرسته الابتدائية المحاطة بمقبرة النجف من ثلاث جهات. كانت اطلالته الوحيدة محصورة في افق لا نهائي من القبور، وجنائز متوالية على مدار الساعة انها مدرسة "السلام" التي خرّجت عددا كبير من المغنين العراقيين كما يقول، مثل ياس خضر، فضلا عن كونها مركزا للتظاهرات في خمسينيات القرن الماضي. قبوله للدراسة في كلية اللغات في بغداد، وضعه امام محطة جديدة، هناك درس اللغة الالمانية لتتعمق علاقته بجيل الستينات الادبي. اخذ يحيا بين ثلاثة اتجاهات ابداعية: القصة والشعر والرسم. كانت تلك انتقالة كبرى من شعر النجف العمودي وقصصه وحكاياه الى النثر واللامعقول والادب الوجودي المتسيد في جيل الستينات البغدادي.

السنوات الـ 11 التي قضاها في عاصمة الضباب، امضاها في كتابة "المستبد" 2006، واتبعه بروايتي "حافة القيامة" و "الخائف والمخيف" واخيرا رواية "اوراق جبلية" 2011. أرّخ في هذه الاعمال لحكم الحزب الواحد وللسايكولوجيا الاجتماعية التي خلفها. " كنت اشعر بأن هذا الدكتاتور موجود في داخلي، يحكم سلوكي ويراقبني ويتابع قلمي على الورق، لذا افكر بأن اكتب اليوم عن تأثير الدكتاتور على ضحاياه، والى أي مدى يصيبهم بالعدوى".

كان يجيب اصدقاءه المعترضين على رجعته بالقول: " لندن مدينة مبنية ومنجزة، ما الذي اضيفه اليها؟ لكن العراق الذي يبدأ من الصفر، يحتاج إليّ". يشعر زهير الجزائري باليأس اليوم، لكن التحدي لا يزال موجودا داخله، ولأنه (يدمن العراق) يخرج بين جموع المتظاهرين في ساحة التحرير في بغداد مطالباً بالاصلاح وموجها اصبعه الى الفساد.

اكثر ما لفت نظره بعد سقوط بغداد، هو "اوهام الداخل والخارج" التي يعدها طائفية اخرى بين المثقفين العراقيين. يدخل احد رجال البرلمان الى المطعم الذي نتحاور فيه في منطقة الـ 52 في بغداد، يتمعن الجزائري في الرجل، وفي سرب مرافقيه، ثم يقول: " لا اعتقد ان المحاصصة ستظل قدرا لا فكاك منه، سنشهد تفكك احزاب الطوائف بفعل تناقضاتها الداخلية وعجزها عن تقديم الحلول لحاجات الناس منذ تسع سنوات".