للشاعر علي حنون العُقابي قصيدة، هي مناجاة للشعر ، وكثيراً ما ناجى الشعراء شعرهم ، ولكن هذه المناجاة غطت القصيدة كلها من أول لفظة حتى النهاية ، من ثريا القصيدة (لا فكاكَ منكَ ايها التوهج) ص101 . حتى لحظة الوقوف عند النقطة التي بها تسدل ستارة النهاية. لذلك فالقصيدة تتمتع بوحدة الموضوع ، إذ إنها لم تخرج عن إطار موضوعها في سطورها الأربعين كلها.

ولكي يمسك الشاعر بوحدة موضوعه ، فأنه شَخْصَن الشعر وناجاهُ بضمير المخاطب : " علمتَني كيف ابارك الحبر، لا فكاكَ منكَ، تقدمْ لأباهي الكون بما كتبتُ... " ، وهذه الشخصنة منحت القصيدة بناء قوياً متماسكاً بهذا الحوار المعلن والداخلي ما بين ذات الشاعر وبين شعره ، مما منح النص حميمية قد تفتقر اليها محاولات الشعراء في الأشارة الى أشعارهم. إذ إنهم يشيرون الى شعرِهم اشارات عابرة ، خصوصاً في تراثنا الشعري الخالد الذي يجسده شعر الشطرين. فهذا المتنبي في قوله المشهور " أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي..." يشير الى شعره اشارة عابرة لا تستغرق سوى بيتين ، ثم يختتم قصيدته مشيراً الى قيمة شعره اشارة يريد ايصالها الى سيف الدولة :

هذا عتابكَ إلا أنه مِقَةٌ   قد ضُمن الدرّ إلا أنه كَلِمُ

والاشارة العابرة الى الشعر ظاهرة لا يكاد يخلو منها شعر شاعر. فهذا جوهرتنا الجواهري يخاطب الأرق ، والقلق ، وصنوَهما شعرَه :

لكَ زاد عندي القلقُ

واليراع النضو والورق

ورؤىً في حانة القدَر

عُتقتْ خمراً لمعتصرِ

ثم يغادر الجواهري الفكرة ، كما غادرها قبلَه ابن كوفته الحمراء ، المتنبي. أما شاعرنا العقابي ، فأنه يبقى ممسكاً بتلابيب مُحاورِه الشعرِ ، لا فكاكَ للشاعر منه ، ولا فكاك للشعر من الشاعر. وهذه واحدة من المسائل التي منحت القصيدة تميزاً على سواها.

لما كانت القصيدة مناجاة للشعر ، فما الضرورة التي تجعل الشاعر يناجي هذا المخلوق ؟ بتعبير اوضح : ما دور الشعر ؟ وما وظيفته ؟

يجيبنا الشاعر بقوله : " فمن يدلني غيرُك على الحرف الساخن؟". إذاً هو الشعر الذي يُدلُّ على الحرف رمز الفكر ، لكنه حرف شعري يكتسب شعريته من كونه ساخناً ملتهباً لا بارداً رمادياً. فالشاعر يؤمن " بأن الشعر ترياق الأزل" ، ولا شك أن " ترياق الأزل" توحي بصفة غير محمودة للشعر، لما في الترياق من انزياح موحٍ بما لا يُحمد. ولكن الشاعر جعل الترياق هو الخيال الذي به تُرسم صورةٌ تتجاوز واقع الظلام. لذلك لا بد من ربط هذه الجملة الترياقية بما تلاها من الجمل :

"اقتربْ مني لتشكل هذا الألق

اقتربْ من الفوانيس قبل انقضاض الليل علينا".  أما إذا قرأنا الجملة معزولة عما سبقها وعما تلاها ، فأننا سنظلم القصيدة والشاعر معاً ، كظلم الذين اقتطعوا ويقتطعون عبارة ماركس الشهيرة (الدين أفيون الشعوب ) لأنهم اقتطعوها من سياقها الذي وردت فيه ، وحرفوا (الشعب) الذي جاء مفرداً ، وجعلوه جمعاً (الشعوب)(1)، فالعقابي لا يريد لحرفه الشعري ان يكون متخاذلاً خائفاً ، بل يوصيه بـ " انتزاع الخوف عند المواجهة ". يريده شعراً كشاعره، ذا موقف تندغم فيه الذات النازفة مع صوتها المعبر ، الشعر ، لإضاءة الظلام:

"دعني أُغدق عليك النزيف ...

فربما أصير سمعة كي أضيء حزنك السومري "

فنحن هنا أما مخلوق ثالث ، خلقه تماهي الشاعر بشعره ، ذلك المخلوق خرج من أعماق الشاعر ، ألا وهو روحه التي لا تتجلى ولا تشع إلا بهذا المتوهج ، ألا وهو الشعر : " دعني أمارس القطاف ، فاليوم تجلتْ روحي بهذا التوهج" .

لقد بنى الشاعر قصيدته معتمداً النثر بتركيز عالٍ يحقق شرط هذا الجنس الأدبي، بشروطه التي ذكرتها سوزان بيرنار في كتابها عن قصيدة النثر. كذلك نجد الادهاش في القصيدة ، بهذا التركيز وتلك المجازات اللغوية. والشاعر العقابي بمجازاته بمختلف انواعها حداثوي النزعة بما يولده بمجازاته الجديدة التي تخصه وحده، وتعبر عن روح التجديد في عصرنا. فهو يقول : " كيف انصت لإِيقاع السكون" ، حيث جمع بين متضادين : الصوت واللا صوت. فالايقاع صوت ، والسكون لا صوت فيه ، وهذه المجازات شاعت في شعرنا منذ الستينات عند مجموعة من شباب تلك المرحلة ، كحميد الخاقاني ، ونبيل ياسين ، وراضي رحمه السيفي الذي يقول :

مِن بُحَّةِ الصمتِ مِن أنّات مُحتضِرِ   سكبتُ قلبيَ الحاناً على وتري

فما اقربَ بحة الصمت من قول العقابي : ايقاع السكون. وأنا لا أتهم العقابي بأنه أخذ المجاز وقلده ، فالفرق هائل بين المجازين رغم تشابهما. وأُرجح ان العقابي لم يسمع ببيت السيفي ولا بمجازه ، ولكن هو الشعر جادةٌ وقد يقع الحافر على الحافر. فهذه المجازات عبرت عن روح تجديد تمثل عصرنا ، والشاعر العقابي واحد من ابناء هذا العصر الذين يبحثون عما يجسد ما بِدَواخلهم متجاوزين الكلائش الجاهزة التي عفا عليها الزمن. ولذلك فهو يريد شعره جديداً معبراً عن روح عصره متجاوزاً ما استهلك ، ولا يرضى بالتستر خلف الماضي . فهو يقول :" دع عنك التستر خلف الدروع التي تصدعتْ".

 هذا هو موقف الشاعر من الصراع بين القديم والجديد. لقد صاغ موقفه بجملة شعرية ضمت لَواحِق توضحها. فلفظة الدروع توحي بالقَدامة ، فنحن في عصر الرصاص والصواريخ ، لا الدروع والسيوف والرماح. ولم يكتف الشاعر بلفظة الدروع ، بل أضاف لها وصفاً أخرجها من عصرنا ، حينما نعتها بـ (التي تصدعتْ). فهذا الوصف أنهى دور القديم وفائدتَه. ولربما يظن ظانّ أن الشاعر ضد تراثنا وموروثنا في ديوانه هذا ( وحدي ولم يكنْ معي سوى قلبي)، وخصوصاً في قصيدته مدار موضوعنا. ولكن الديوان والقصيدة كفيلان بدفع هذه التهمة ، فهو يمتلك لغة سليمة المفردات والتراكيب ، والقارئ المتأني سيجد أن للعقابي ثقافة لم يفتْها التراث العربي والاسلامي ومناهلُ الثقافة العالمية الأخرى. فها هو ذا يتناص مع القرآن الكريم في اكثر من شاهدٍ ، كقوله : " اليوم اكملتُ لك الحروف وأتممت عليك العشق". فظلال القرآن الكريم واضحة في تعبير الشاعر.

وفي الديوان قصيدة بعنوان ( أتبعك لآخر الافق) ، يستوحيها من قول جلال الدين الرومي : " أنا ثمل وأنتَ مجنون ، فمن ذا الذي يقودنا الى المنزل" ، ويجعل مقولة الرومي عتبة وخميرة بها يُنضج قصيدته ، ويتأثر بقول النفري : " إذا اتسعت الفكرةُ ضاقت العبارة" ، فيصوغ جملته : " يا لضيق العبارة عندما يتصدع القلب" ، ويتأثر بعبارة الفيلسوف ديكارت : " الشك طريق اليقين" بقوله : " أرتدي قميص الشك بحثاً عن اليقين" .

ولا يعدم القارئ المتأني شواهد أخرى في الديوان تلقي ضوءاً على ثقافة الشاعر المتنوعة المصادر ، وهي شواهد تضيء ما يمتلك الشاعر من ثقافة. وهو حتى في تناصاته يترك بصمته المؤثرة ، فيصوغ عبارته المتناصة متأثراً بجوهر الفكرة مُلبِساً إياها مِن ابداعه ما يُدخلها الى عالمه الشعري الخاص .

والقصيدة تتمتع بالغموض الشفاف ، مبتعدة عن دروب الابهام المنفلت ، وهذه سمة من سمات قصائد الديوان كله، الذي تحتاج كل قصيدة من قصائده وقفة تكشف ما فيها من جوهر الشعر بشعريته ، والشاعر بشاعريته. واعتذر للقارئ والشاعر عما لم أُشِر اليه من ألقٍ في قصيدة : " لا فكاكَ منكَ أيها التوهجُ " . فهي قصيدة متألقة، كلما تمعنتَ فيها فاض عليك موج من الابداعِ من هنا ومِن هناك .