احسب منذ البدء، ان الترجمة عمل يحتمل قدراً من الاجتهادات والاختلافات وتعدد الآراء، كما يحتمل الخطأ والسهو وسوء القراءة، وان المراجعات والاستدراكات والتصويبات تقاليد مألوفة في عالم الترجمة.

ومع ذلك فقد اتهم المترجم على الدوام بالخيانة لأنه لا يحافظ على اسلوبية النص في هيكله الاصلي، وليس بمستطاعه مطاردة الفكرة من ميدان لغتها الاصلية والامساك بها وتنقيتها من كل ادرانها وشوائبها في ظل اللغة الجديدة التي ينطقها هذا المترجم، فضلا عن غرابة وغربة الهيكل الجديد للترجمة عن النص الأولي السابق.

ومن الاتهامات الاخرى الموجهة للمترجم التي لا يمكن الركون اليها او الاستماع لها من دون غضاضة في تبنيها عن سوء الظن او براءة قصد، اعتبار الترجمة خارج منطقة الابداع الادبي او الثقافي العام، حينما يكون هذا المترجم ليس بمنزلة الشاعر او القاص او الناقد ليصبح غريبا كغربة "صالح في ثمود" كما يقول المتنبي. وقد يفلت من هذه التهمة البعض من الاسماء العراقية المبدعة امثال غائب طعمة فرمان وعلي الشوك وجبرا ابراهيم جبرا وعبد الواحد لؤلؤة وصلاح نيازي ونجيب المانع ولطفية الدليمي وسعيد الغانمي ونصير فليح في العراق، لا لأنهم مترجمون محنكون، بل لأنهم ايضا من ارباب الشعر والرواية والنقد، وكذا الامر لبعض المترجمين العرب اللامعين امثال: خليل مطران ولويس عوض وجورج طرابيشي وممدوح عدوان وخالدة سعيد ومحمد بنيس واحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم الكثير.

والحق، اننا لو اسلمنا بهذا الاتهام بشكل اطلاقي مقرف لاستبعدنا قائمة طويلة من المترجمين العراقيين والعرب الافذاذ على مدار اكثر من قرن ثقافتنا الحديثة المعاصرة، منها استبعاد العلّامة العراقي طه باقر الذي عرفناه بـ "ألواح سومر" لصموئيل كريمر فضلا عن الدراسات المكتنزة لـ "ادب العراق القديم" بأقلام أكبر علماء الآثار في العالم، لأنه بعيد عن الابداع الشعري والقصصي أو لمجرد كونه عالماً آثارياً او استاذاً اكاديمياً في جامعة بغداد، وهذا ما ينطبق على الاستاذ الراحل نوري جعفر الذي عرف العالم العربي لأول مرة بنظرية "الانعكاس الشرطي" لبافلوف التي هزت مدرسة التحليل النفسي لسيغموند فرويد وتلميذيه الشهيرين كارل يونغ وأدار، ولاستبعدنا ايضا استاذ الفلسفة المصري الشهير عبد الرحمن بدوي وانتهكنا قدسياته الفلسفية وحرقنا ايقوناته المترجمة التي تزيد عن مائة وعشرين كتاباً.

ومثل هذا الاستبعاد القهري قد يحتم علينا رفع المعاول ازاء أبرز اثنين من المترجمين المصريين عن اللاتينية او ما يسمى بـ "الهلينية القديمة" واعني بهما الاستاذ دريني خشبة الذي ترجم ملحمتي "الالياذة والاوديسة" لهوميروس، والاستاذ حسن عثمان مترجم "الانيادة" لفرجيل والمجموعة المسرحية الكاملة لاريستوفان والكوميديا الالهية لدانتي. وقد لا نكتفي برفع المعاول فقط، وانما نوجه مدفعيتنا الثقيلة امام ثلاثة مترجمين عرب لهم القدح المعلى في ثلاثة آداب عالمية مختلفة، ومنهم السوري سامي الدروبي في ترجمته للأعمال الكاملة للأديب الروسي الشهير ديستوفيسكي والسوري الآخر صالح علماني في ترجمته لأغلب كتاب امريكا اللاتينية امثال ماركيز ويوسا وايزابيل الليندي، والمترجم العراقي انيس زكي حسن المتخصص بأعمال الانكليزي كولن ولسن ومنها "اللا منتمي، ما بعد اللا منتمي، ضياع في سوهر، طقوس الظلام، شجرة الحضارة..". ضمن كيان لا متناه ومنوع. والسؤال: اليس هذا هو الإبداع الحقيقي في شواغل الترجمة؟

ومع ذلك فالمدرسة الاستشراقية في ترجمة الادبيات الاستشراقية تقدم لنا عما يمكن تسميته بـ "اللا قراءة" او حتى "الضد قراءة" بحسب صياغة المترجم الراحل جورج طرابيشي في نقده لهذه المدرسة.

فمع ما للمدرسة المشار اليها من فضل اكيد في ترجمة بعض امهات كتب الاستشراق، عن الفرنسية والانكليزية والالمانية، فقد اسهمت بقسط موفور بالمقابل في تطوير موقف عقلي سالب لا يزال الفكر العربي يرزح تحت ثقله الباهظ والمعوق لملكة الابداع وتقبل الجديد والرأي المخالف، هو موقف الدفاع والمنافحة عما يمكن اعتباره عقيدة قويمة في قضايا الدين والتراث والحضارة العربية الاسلامية.

فمهما ابدى المستشرق من حسن نية، ومهما حاول ان يكون ايجابياً في تقييمه او متحفظاً في نقده، فان رأيه لمجرد انه رأي آخر يمدد من قبل مترجمه على منضدة التشريح والتعليق والنقد المضاد، وقد يسفّه إذا ما ارتكب هفوة معرفية تسفيها شديداً، هذا إذا لم يجر التشكيك اصلا في نياته.

ولكي تكون الصورة واضحة نقول بتبسيط شديد: حتى في الحالات الايجابية التي لا يتحرج فيها المترجم من ترجمة ما يترجمه، فان آراء المستشرق قلما تأخذ طريقها الى عقل القارئ بصورة مباشرة بل تمر بالضرورة عبر منخل المترجم المتخندق في هوامشه والمترصد لكل ما قد يعده لدى المستشرق بدعة او هرطقة، على اعتبار ان تعريف البدعة في التراث الفقهي العربي هو النهج على "غير مثال سبق".

هذه البدعة تلزمنا بوقفة تاريخية لا بد منها، خصوصا حينما تبدو مصائر الترجمة في الثقافة العربية الكلاسيكية معاكسة لمصائرها في الثقافة العربية الحديثة لا في ساعة الممات فحسب، بل كذلك في ساعة الميلاد.

فعلى حين ان اعتبارات ايديولوجية خالصة ومتضخمة احيانا كانت وراء مولد حركة الترجمة وتطورها في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، فان اعتبارات عملية حصرية كانت وراء مولد حركة الترجمة في الثقافة العربية الكلاسيكية. وقد تمثلت اول حركة ترجمة لدى العرب من خلال نقل الدواوين وتعريبها في القرن الاول الهجري في عهد بني امية، وبمبادرة من الحجاج بالنسبة الى الديوان المكتوب بالفارسية، ومن هشام بن عبد الملك بالنسبة الى الديوان المكتوب بالرومية كما جاء في الفهرست لابن النديم البغدادي.

ولئن تكن عملية الترجمة قد نشطت في ايام الامويين "بالمفرق" فقد كان لا بد من انتظار قيام دولة بني العباس في بغداد حتى تنشط وبالجملة، فالمرابع التاريخية تجمع على المنصور ثاني خلفاء بني العباس هو اول خليفة قرّب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، واول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والاعجمية بالعربية ككتاب "كليلة ودمنة" و"اقليدس" كما ورد في "تاريخ الخلفاء" للسيوطي.

ويؤكد ابن خلدون الذي لا نتردد ان نصفه بانه الناقد الموسوعي للحضارة العربية والاسلامية، ان نهضة حركة الترجمة في زمن المنصور فصاعدا انما جاءت تعبيرا عن تطور حضاري جمعي وتلبية لحاجة الحضارة العربية الاسلامية في لحظة تجاوزها لذاتها ولسائر الحضارات التي تقدمتها، الى هضم تراث هذه الحضارات في عملية انفتاح على الآخر يقل نظيرها من حيث الاتساع في التاريخ الحضاري ما قبل الحديث. هكذا يقول صاحب المقدمة:"لما انقرض امر اليونان وصار الامر للقياصرة واخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها، وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدة في خزائنهم".. "فبعث ابو جعفر المنصور الى ملك الروم ان يبعث اليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث اليه بكتب اقليدس وبعض كتب الطبيعيات، فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها. وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله، فانبعث لهذه العلوم حرصا وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي، وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب، وعكف عليه النظار من اهل الاسلام وحذقوا من فنونها وانتهت الغاية انظارهم فيها".

ان الرغبة في العلم التي صدرت عن المأمون وهو يبني أكبر ورشة للترجمة في الاسلام أي "بيت الحكمة" لم تكن عن هوى او ادعاء، فابن النديم يصفه بانه "اعلم الخلفاء في الفقه والكلام" وينسب اليه رسالة في "الاسلام والتوحيد" وثانية في "حجج مناقب الخلفاء" وثالثة في "اعلام النبوة". والحال ان حركة الترجمة التي انتصر لها المأمون كانت تمثل بدورها نقطة الالتقاء بين النزعة العقلية في الثقافة اليونانية او المكتوبة باليونانية وبين النزعة العقلية في الثقافة العربية. وهذا الالتقاء الذي اعقبه خلاف للأسف – كما سنرى- هو الذي اينع اشهى ثمرات الثقافة في العصر الذهبي للحضارة العربية الاسلامية في ما بين القرنين الثالث والسادس للهجرة.

ان حركة الترجمة في بغداد خلال القرنين المذكورين طالت لا الفلسفة وحدها كما هو مشهور، بل جميع ميادين العلم الممكنة في حينه، بدءاً بالطب والفلك والجغرافيا ومرورا بالموسيقى وعلم الحركة "الميكانيكا" والحساب والهندسة والجبر، وانتهاء بعلوم الفروسية والحرب "الاستراتيجية" والبيطرة والصيدلة وغيرها.

حركة الترجمة الواسعة النطاق هذه، التي انتبهت لها أوروبا ونهلت منها في العصر الوسيط، هي التي قمعت ابتداء من القرن الخامس الهجري في سياق حركة الابادة الشاملة التي تعرض لها النزوع العقلي في الحضارة العربية ابتداء من انقلاب المتوكل خلال القرن الثالث الهجري المتمثل بحرق الكتب تحت شعار تصفية البدع والملل والنحل، وما تلاه الانقلاب الذي قاده الخليفة القادر بالله خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة، واخيرا انقلاب المعتضد بالله خلال القرن السابع للهجرة.

ولا يتسع هنا المجال للدخول في تفاصيل عملية التصفية التاريخية الكبرى لمدرسة بغداد في الترجمة التي انتهت الى اعلان اقالة العقل في الحضارة العربية والى محاصرة كل انفتاح وكل نزوع عقلي الى الجديد الى النار والموت. وهكذا كان مدخل هذه الحضارة الى سرداب ليل الانحطاط الطويل، ثم ستمضي قرون عديدة لتنبثق حركة التنوير العربي من جديد خلال نهايات القرن الثامن عشر الميلادي بواسطة محمد علي باشا في مصر وفاعلية المترجمين العرب من اهل الشام "سوريا على وجه التحديد" خلال القرن التاسع عشر، ولكن سرعان ما اجهضت هذه الفاعلية وتلك الحركة ببطش السلاطين العثمانيين، ثم وفود الهلينية الجديدة على الوطن العربي من خلال الاستعمار الاوربي على كافة ارجاء الوطن العربي.

ولعلنا لا نغالي القول بان ينابيع الحداثة والتحديث في العراق وعموم الوطن العربي قد ابتدأت ارهاصاتها الاولى في منتصف اربعينات القرن العشرين بعد ان وضعت الحرب العالمية اوزارها، إثر تحولات عميقة جرت في العالم كله، وأدت الى انقسام الحلفاء المنتصرين الى معسكرين، الاول بقيادة الاتحاد السوفيتي وعرف باسم المعسكر الاشتراكي، والثاني بقيادة الولايات المتحدة وعرف باسم المعسكر الرأسمالي الغربي، وهو ما ادى الى صراع كوني وحرب باردة من اجل الهيمنة على العالم.

ومع ذلك فان الحداثة الجديدة التي عصفت رياحها بسنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية على المستوى الدولي تجلت في العراق أكثر من اي مكان آخر لتوافق تاريخي خاص بين الشرط الكوني والمحلي، مما اضفى على شواغل الرعيل الاول من جيل المترجمين امثال يوسف غنيمة وروفائيل بطي ويوسف عبد المسيح ثروة وغانم حمدون وابراهيم اليتيم وعلي الشوك وامجد حسين وعدنان رؤوف وآخرين ذلك الطابع الاستثنائي الذي مثل الجوهر الفعلي الحي لحركة هذا الجيل وانتقل بالكتابة الجديدة من حال الى حال الهلينية.