حاول الكاتب أياد خضير أن يلخص معاناة الشخصية العراقية في روايته "أوجاع السنين" وجعل كل شخصيات الرواية "المأزومة" تعبر عن نفسها من خلال السارد "محمد جاسم"، الشخصية التي تجتر ذكرياتها حينما كان يعمل في بغداد وتلك الشخصيات التي يسترجعها تباعا بعد ان احيل الى التقاعد – عند بلوغه الثالثة والستين من عمره.... تغيرت نظرته للحياة.

لا أعلم كان بودي ان اقرأ هذه السردية تحت مظلة القصة القصيرة وليست من جنس الرواية. وهذا لا يعد انتقاصا من مكانة السردية مع انني أحس بأن معظم الادباء والكتاب يتمنون كتابة رواية ولا يغريهم ان يكون انتاجهم "مجموعة قصصية"! مع انني ارى أكثر من روائي قد بدأ بكتابة القصص القصيرة ومن ثم انتقل الى الرواية. لا اريد ان اتوقف عند هذه الجزئية لتمثل محور من القراءة النقدية لرواية "أوجاع السنين".

الواقعية التلقائية

ينتهج اسلوب اياد خضير منهجا واقعيا وهو تلقائي ايضا، فيه الكثير من صور المعيشة وصعوبات التأقلم مع الحرمان، الوحدة، الفشل، على الصعيد الاسري والشخصي والعاطفي وكل هذا كفيل بخلق "الوجع" كما يطلق عليه الكاتب، فإذا اضيف الى ذلك الظلم الاجتماعي، والقسوة السياسية، وغياب الحرية الاجتماعية، ومآسي الحروب ونتائجها الكارثية وضنك العيش وفقدان لذة البقاء والاستمرار!"لماذا يعيش؟ والام يحيا؟" هذا هو السؤال الفلسفي الذي من الطبيعي ان "يخاطب البطل نفسه به " في الرواية محمد جاسم وهو الذي لن يبقى لديه ما يقدمه للمجتمع غير ذكرياته وهو يعمل في بغداد او عند رجوعه الى "مدينته الجنوبية" الناصرية والذكريات عند محمد ليست جميلة ومفرحة وتصلح للقضاء على الملل والوحدة التي اصبح يعشيها بعد التقاعد بل هي محطات حزينة وظروف قاسية تبدأ باليتم والغربة ومن ثم الحرب والاعتقال مرورا بالاحداث العامة واسقاطاتها على شخصيات الرواية "عبد الحليم-احمد القصاب-ماهر" وشخصيات اخرى يسمعها السارد من باقي الشخصيات.

الابعاد الفلسفية والنفسية

في السردية هناك اهتمام ملحوظ من خلال الحوارات بالفلسفة الوجودية وخاصة سارتر ففي حوار بين بائع الكتب احمد القصاب مع محمد جاسم: -إنك قارئ جيد، يسأله القصاب. انا اقرأ لسارتر معجب بكتاباته.. هل حاولت الكتابة؟ نعم حاوت كتابة قصة قصيرة ونجحت فأنا مولع بهذا النوع من الأدب. هذه الكتب الوجودية تسلب عقلك ولا تدعك تنام من الكوابيس التي تزورك، الخوف يلد خوفا ويلد الموت بكل صوره.. هذا هو هاجسي الأكبر. عليك أن تقرأ الكتب الواقعية والاشتراكية في مكتبتي الكثير منها".

المسار الاجتماعي القاسي

في الفصول الاخيرة من الرواية تتجسد فيها ذروة المعاناة مما يضطر الروائي وهو الذي ينتمي بروايته هذه الى مبادئ "الواقعية الاجتماعية" وبما يملك السارد من معرفة مطلقة في سرديته الى إن يقوم بإضافة شخصيات من الواقع اشد اسى وتدهورا نفسيا سواء اكانت شخصيات سوية مثل "عبد الجبار" صديق محمد السارد الذي يعيش حالة من الامل والاستقرار النفسي وهنا الكاتب يورد حكاية هذه الشخصية لبيان مدى قسوة وقبح الوضع السابق وكأنه يقصد تذكير المتلقي ومنهم من يحن الى النظام السابق بسبب صعوبة الحياة والفساد والمحاصصة وغياب الامن والخدمات في وضع ما بعد الاحتلال الامريكي وما نتج عنه من عملية سياسية فوضوية . عبد الجبار متزوج ويحب عائلته ويفكر بالاستقرار "كان يحس بالشباب، بالصحة، وبالمستقبل، الباسم الذي ينتظره"، كان هكذا بعد ان منحته شقيقته الفي دينار لبناء دار بسيطة، لكن الانظمة البوليسية الفاسدة لا تسمح بتحقيق الاحلام، وتمثل السيطرات في النظام البائد نقطة رعب وخوف للمواطنين وبالذات العسكريين "قال أحدهم بعد أن دعك شاربه الغليظة -الشارب له رمز للبعثيين -  من أين جئت؟! هل كنت مع المجرمين الهاربين في الهور؟! من اين لك هذا المبلغ؟ هل هو لقاء عمل قمت أو ستقوم به ضد السلطة؟ اسئلة كثيرة تعرض لها – عبد الجبار -" وحينما يقول الحقيقة بإن النقود من اخته كي يبني بيتا، يتعرض الى الاعتقال والتعذيب لأنه يرفض التنازل عن المبلغ لضابط السيطرة وهنا يقدم لنا السارد وصفا دقيقا لوجبات لتعذيب وتلفيق التهم وانتزاع الاعترافات من المعتقلين، ومن اجل انقاذ نفسه يوافق على التنازل عن المبلغ مقابل الإفراج عنه "لكن الحكم قد صدر بإعدام عبد الجبار"، مثل حكاية عبد الجبار التي تمثل قسوة النظام وحجم الظلم يكون لها اسقاطات موجعة على شخصية محمد جاسم "كلما تذكر هذه القصة يرتعب ويرتجف من الخوف وكانت نذير شؤم".

التصعيد السلبي

يستمر السارد في استحضار كل الذكريات المؤلمة لتجهيز المتلقي – نفسيا -  لما سوف تصل اليه شخصيات الرواية بما فيها البطل، فهناك استذكار لحكاية ماهر المسيحي الذي هاجرت اسرته الى اليونان ليبقى وحيدا يقبع في غرفته لمتابعة التلفزيون ليصاب بالكآبة والحزن الدائم حتى يتعرض الى الموت "كانت رائحة قوية تصدر من بيته، "مسكين وجدته منكبا على وجهه فوق الطاولة وصور عائلته مبعثرة" وتتوالى الذكريات غير المفرحة وتتصاعد لتشكل سياجا نفسيا يضغط على محمد جاسم، "تذكرت صديقي عبد الحليم والحسرة احرقت قلبي... آه.. آه أين انت الان؟ ميت أم حي؟.. رحت أسأل عن صديقي أحمد القصاب قال جاره... إن أحمد استشهد في إحدى المعارك" لقد وظف الروائي جملة من الاحداث الواقعية لرسم صورة مأساوية تحيط بالسارد فهناك حكاية "هويدي الأعور" على الرغم من الطرفة التي يذكرها السارد عندما يلاحقون فتاتين تبتسمان لهما وتستنجدان بابناء المحلة ويتعرض محمد الى الضرب المبرح بينما هويدي الاعور لم يضربه احد لأنهم يعرفونه ثم ان وسامة محمد تجعله موضع الشك وتبقى لازمة "عمو آخ آخ آخ"، العبارة التي كان يطلقها محمد اثناء الضرب تضحكهم!لكنه حينما يتصل بهويدي الاعور يخبره ابنه ان والده مات منذ شهرين "هذه الحادثة.. الصدمة. أضافت الى محمد جاسم هما جديدا وكنت علامة تنذر بنهاية الحياة لأن أصدقاءه تساقطوا واحدا تلو الآخر وإنه سيلاقي حتفه وإن أيامه باتت معدودة جدا"، على الرغم من تكرار جملة سارتر "الجحيم هم الاخرون" الا ان فقدان الاعزاء والاصدقاء هو الجحيم الذي يتعرض له السارد!

الخاتمة

"أوجاع السنين" من الروايات الحزينة جدا، وانت تتابع تطوراتها لا بد ان تشعر بالاسف لما حدث لشخصيات الرواية وقد تعود لقراءة الرواية من جديد لإشباع غريزة الامل والفرح وتجديد التعرف على الشخصيات بعد ان فقدت منك تباعا وتتمنى لو لم تتعرض تلك الشخصيات-التي استطاع الروائي ان يخلق نوعا من التعاطف الوجداني بين المتلقي وبينهم-تتمنى لو لم تتعرض الى الظلم والقتل والعوق والجنون والاختفاء وحتى الانتحار! محمد السارد وهو يناجي النهر صديقه "انزلقت قدماه. سقط عكازه بعيدا لا يوجد شيء يتمسك به، يتشبث به... ظل يشده بقوة، كان الأجدر ألا يدعه، يجرجره بالحديث، فيقتل من قبل أعز الأصدقاء".

عرض مقالات: