هناك جملة من بين نثريات الشاعر الإغريقي آرخيلوخس يقول فيها "إن الثعلب يجيد أشياء عدة، إلّا أن القنفذ يجيد شيئاً واحداً مهماً".

وبترجمة حرفية أكثر؛ "إن الثعلب يعلم أشياء عدة، لكن القنفذ يعلم شيئاً واحداً كبيراً".

اختلف الباحثون في اختيار الترجمة الصحيحة لهذه الكلمات المُكثفة، التي قد تعني ببساطة أن الثعلب، وبالرغم من كل ما أوتي من مكرٍ، فإنه قد يُهزم عبر طريقة واحدة يعتمدها القنفـذ في الدفاع عن نفسه.

لكن، لو أخذنا بالمجاز، فإن هذه الكلمات ربما تكون قد قيلت لتعني الوعي بالفوارق العميقة التي تفصل الكـُـتــّاب عن المُفكرين، أو ربما أنها تميّز البشرية كلها عن بعضها البعض.

يحدث هذا لأن هنالك هوّة عظيمة تفصل الضفتين الموصوفتين.

 هؤلاء الذين ينظرون الى كل شيء عبر نظرة مركزية واحدة، يقفون على الضفة الأولى، ضمن نظام واحد، سواءٌ قلّ تماسكه ووضوحه أو ازداد. هؤلاء الذين يفكرون ويشعرون ويفهمون فقط وفقاً لمبدأ كوني واحد يربط كل الأشياء وينظمها معاً، هذا المبدأ هو كلّ ما هـُم عليه، يقولونه ويفعلونه.

وعلى الضفة الأخرى، يقف أولئك الذين يلاحقون نهايات عدّة في وقت واحد، حتى لو كانت غير مترابطة أو حتى أن تكون متناقضة. ولو وُجد هذا الترابط فإنه سيكون مجرد ترابط عُرفي وظرفي. لكنها من جانب سايكولوجي أو لأسباب سايكولوجية ستكون نهايات لا يربطها مبدأ جَمالي أو أخلاقي واحد. هذه النهايات المتعددة هي من تقود الأنفس، وهي من تنجز الأفعال، وهي من تحتضن الأفكار الطاردة بدلاً من الافكار الجاذبة المُستقطبة.على هذه الضفة، يقف أيضاً أصحاب الأفكار المبثوثة والمبعثرة، والمتراوحة بين مستويات عدّة، هم ينطلقون من جوهر تنوّعهم الواسع في الخبرات والأغراض لكن ضمن ما هم عليه في حقيقة الحال.

غير واعين أو بلا إدراك انهم في حقيقة الامر يطلبون قولبة ذواتهم ضمن أطر لا تتغير، هذه الأطر ستكون مُحرجة لهم وربما كانت متناقضة وغير متكاملة، وفي أحيان أخرى يحاولون بدلاً من ذلك، النأي بأنفسهم وعزلها.

وفي الحالتين كلتيهما "استثناء الذات أو القولبة" يغدو بهم الحال أن يقعوا فريسة رؤية مُشبعة بالأنوية والتعصّب والأحادية.

النوع الاول من الشخصيات الادبية والفكرية تنتمي إلى دور القنـفذ!.بينما ينتمي النوع الثاني الى دور الثعلب.

وبلا داع للإصرار على وجود تصنيف صارم، يمكن لنا بلا تردد كبير أن نقول: إن "دانتي" ينتمي إلى الصنف الأول، بينما ينتمي "شكسبير" الى الصنف الثاني.

أما "أفلاطون"، و"لوكريتيوس"، و"باسكال"، و"هيغل"، وديستويفسكي"، و"نيتشi "، و"إبسن"، و"بروتس"؛ فهم جميعهم "قنافذ!" لكن بدرجات متفاوتة.

اما "هيرودوتس"، و "أرسطو"، و"مونتاغان"، و"ايراسيموس"، و"موليير"، و" غوتi "، و"بوشكين"، و"بلزاك"، و" جيمس جويس"، فإنهم كلّهم ثعالب.

وبطبيعة الحال وكما في كل التصنيفات المبسّطة، تصبح الثنائيات إذا ما طـُبقت ثنائية "قروسطية" مصطنعة ولا معقولة.

لكن هذه الثنائية إن لم تكن وسيلة نقدية جادة فينبغي ألا تـُرفض فقط لكونها تبدو ثنائية سطحية وركيكة.

ومثل كل التوسيمات أو التمييزات الدلالية التي قد تحوي نسبة من الحقيقة، فإن هذه الثنائية توفر وجهة نظر مقارنة ونقطة للبدء في بحث أصيل عن صحتها ومدى مطابقتها.

وعليه، فليس لدينا أدنى شك في مدى عنف التناقض بين بوشكين وديستويفيسكي.

حتى النص البليغ و الشهير الذي كتبه ديستوفيسكي عن بوشكين، فنادراً ما كان يؤخذ على أنه نص في تقييم عبقرية الأخير، إنما كان يدرس على أنه مصدر لدراسة دستويفيسكي نفسه. وبعبارة أدق فإن هذا النص يقدم بوشكين على أنه ثعلب لكن بسلوك مُنحرف، وذلك في أوج عظمته في القرن التاسع عشر، وانه يشابه ديستوفيسكي من نواح عدة. لكن ديستوفيسكي نفسه لم يكن في الواقع أي شيء سوى "قنفذ"، وفقاً للتوصيف أعلاه للقنافذ.

ديستوفيسكي بذلك يقوم بتحويل بوشكين بل مسخه الى مجرّد صورة لنبي معتكف، أو حامل لرسالة كونية مفردة. هذه الصورة كانت في حقيقتها انعكاساً لعالم ديستوفيسكي نفسه، لكنها في الوقت ذاته بعيدة كل البعد عن توصيف جينات بوشكين العبقرية.

لن نكون مجافين للعقلانية لو قلنا إن الادب الروسي إنما شهد توسعاً وانتشاراً بفضل هذين القطبين العملاقين، حيث يقف بوشكين على طرف ويقف ديستوفيسكي على رأس الطرف الآخر.

 كما يمكننا أن نوزع باقي شخصيات الأدب الروسي، على خط العلاقة الممتد بين هذين القطبين المتعاكسين. هذا الأمر ممكن لمن يجد أن هذا النوع من التصنيف ممتع ومفيد.

ليحاولوا أن يستقصوا عن مكان تشيخوف في هذا التصنيف، أو غوغول، أو تورغانيف، أو بلوك وكيف يمكن ربطهم، بدرجات متفاوتة بكل من الطرفين النقيضين، ديستوفيسكي وبوشكين.، هذا ما سينتج لنا في النهاية منهجاً نقدياً واضحاً.

لكننا عندما نقارب كل هذا لنحتسب موقع اسم مثل ليو تولستوي، ونسأل، هل إنه ينتمي الى المجموعة الأولى أم الثانية؟..هل إنه مُتبنٍّ لموقف واحدي النظرة أم لآخر متعدد؟...وهل تكون نظرته هي وجهة نظر خاصة به أم يتبناها آخرون كثر غيره؟..أكثر من هذا، هل إن تولستوي نفسه متشكل من عدة عناصر أم من عنصر متفرد واحد غير قابل للاختلاط، وأمام هذا الحشد من الأسئلة قد لا نحظى بجواب واضح.

من زاوية أخرى، يبدو أن التساؤل نفسه في غير محله، لأنه يؤصل مزيداً من الإبهام بدلاً من أن ينير الأجوبة، ومع هذا فليس نقص المعلومات عن تولستوي هو ما يجعلنا في هذه الحيرة، لأن تولستوي ببساطة، تكلم عن نفسه وعن مواقفه وآرائه كما لم يفعل أي شخص روسي في التاريخ، او ربما أكثر مما فعل اي كاتب أوروبي قبله.

حتى إننا لا يمكن أن نصف أدب تولستوي بأنه أدب إشكالي بأي من المعايير، فعوالمه ليس فيها زوايا معتمة وقصصياته مستنيرة بضوء النهار.

لقد شرح سردياته وشرح نفسه معها، وجادل دفاعاً عن الطريقة التي بنى بها قصصه بوضوح وبعزيمة أكبر مستخدماً أدوات متبصرة عقلانية زادت من قوة دفاعه أكثر مما فعل أي كاتب آخر.

فهل هو ثعلب هنا أم أنه قنفذ؟

ماذا يمكن أن نقول؟

ولماذا يبدو السؤال عسيراً بشكل يدعو الى الفضول بحثاً عن أسباب عُسر الإجابة؟

وهل يمكننا القول أن تولستوي يتجانس أو يشابه شكسبير وبوشكين في هذا أم إنه اقرب الى دانتي وديستوفيسكي؟

أو ربما يكون لا علاقة تشابهية تجمعه بهؤلاء على الإطلاق!. فهل يكون عندها التساؤل غير قابل للتحقيق، ما هو اللغز في العقبة التي  يبدو أن تساؤلاتنا اصطدمت بها؟

انا في هذه المقالة لا اقترح أن نركّب اي اجابة لهذا التساؤل.

إذ ان هذا سيورطنا في وضع كامل أدب تولستوي وأفكاره موضع امتحان عسير واختبار غير مؤهل. ولهذا سأقصر نفسي على افتراضٍ واحدٍ قد يكون صحيحاً ولو بصورة جزئية.

سأفترض حقيقة أن تولستوي ذاته لم يكن غافلاً عن حجم المشكلة فعمل جهده ليزيّف الإجابة، المستحقة على التساؤل أعلاه عن إشكاليه أدبه وأفكاره.

الافتراضية التي أود ان اطرحها هنا مفادها أن تولستوي كان ثعلباً بالفطرة، لكنه اعتقد بنفسه أن يستمر بكونه قنفذاً.

كانت موهبته وانجازاته شيئا، بينما كان إيمانه ومعتقده، وبالتالي تعبيره عن ذاته عبر المنجز هو شيئا آخر مختلفا تماماً.

وبناء على هذا فقد قادته مُــثـُـله الى ان ينخرط ضمن مغالطة تعبيرية عن ذاته، مغالطة مُمنهجة ومتــّسقة في إساءة التعبير وتمويه الاختيار بين ما يجب فعله وما لا يجب ضمن المنجز الأدبي، ليس وحده من وقع في هذا إنما وقع معه كل الذين أخذتهم قناعتهم بعبقريتهم بطريقة أو بأخرى.

لا أحد يمكن أن يتذمر من كونه قد ترك قراءه في شك كما فعل تولستوي في هذه الجزئية بالذات.

لقد خرقت وجهات نظره في هذا الأمر الموضوع كله، بل إنها تعدت لتشتمل على كل استطراداته في كتاباته اليومية، "وعلى الماشي" التهمت تسجيلاته اليومية الكتابية ومقالاته وقصصه ، وحتى كتابته في النقد الأدبي ورسائله الى الاشخاص العاديين والمعنويين.

لكن هذا الصراع بين الشخصية التي كان عليها تولستوي وبين الشخصية التي "آمن" بأنها تمثله وسعى الى أن يكونها، ظهر في أوضح تجلياته في كتاباته في التاريخ حيث برزت على صفحات ألمع كتاباته الانفصامية المكرسة لهذا الصراع.

هذه المقالة هي محاولة للتعامل مع تولستوي في مذهبيته التاريخية.

ولكي نأخذ في الاعتبار دوافعه في اعتناق وجهات نظره، وفي الوقت ذاته البحث في مصادر  هذه الآراء التي اعتنقها.

هي باختصار، محاولة لأخذ مواقف تولستوي التاريخية على محمل الجد مثلما أراد هو من قرّاءه أن يأخذوها. وبالرغم من اختلاف الاسباب التي تدفع الى القاء الضوء على عبقرية شخص واحد، بدلاً من أن نلقيها على مصير البشرية جمعاء.

عرض مقالات: