یبدو ان الزمن یسابق نفسه، فها هو عام ینقضي على رحیل فالح عبد الجبار، الفارس الذي ترجل عن صهوة الحياة في السادس والعشرين من شباط 2018 ومضى وحيداً الى الضفة الأخرى ، جارتنا الباردة. والوطن بأشد الحاجة اليه وهو الذي سعى بجد ومثابرة الى بناء مجتمع مدني ديمقراطي حر. ودّعه أحباؤه، بل بعض من أحبائه، فلا الزمان ولا المكان يتسع لأن يحضر الجميع. فالآخرون ودّعوه بقلوبهم، في موكب يليق بمكانته، حتى اوصلوه الى القبر المجهز له، في مقبرة "غرينفورد" ضواحي لندن، قبل وصول الموكب، فثمة أناس يتقنون نظام الدفن، لذا كان كل شيء مهيئاً، مبرمجاً بالدقيقة والثانية. كل ما كان قد حدث خلال سنين وعقود اختزل في هذا اليوم بدقائق ولحظات. تُليت الكلمات التي تمجد سيرته العلمية والاجتماعية، وتشيد بإنجازاته وبحوثه، وبجهودة التي كرس لها جل سنوات عمره، بذلها من اجل وطنه، العراق الذي نشأ فيه وعشق نهرية العظيمين، رغم تنكره له، فهذا الوطن دفعه وكثيرين مثله، من حملة الفكر التقدمي الانساني ممن أحبوا العرق وناضلوا من اجله، الى المنافي القاسية التي امتدت سنوات طوال عاشها فالح عبد الجبار بالحنين والمعاناة، ولكن بالتصدي لعاديات الزمن الرديء بالاجتهاد بالعلم، والمعرفة، والصبر والعمل الدؤوب، وتسخير كل ما ملكه من اعمال بحث ابداعية من أجله، أملاً بالعودة اليه والمساهمة في بنائه من جديد..
لكن حدث وأن ترجل هذا الفارس، في غفلة من الزمن، وهو في قمة عطائه، مرغماً، وهذه هي سُنّة الحياة كما يقال، لايعلم المرء متى تجيء لحظته، وهذا هو سر ديمومة الكون بضفتيه المتجاورتين: الحياة والموت. كلماتٌ وورود تناثرت على شتاء المقبرة اللندنية. في ظهر يوم الجمعة التاسع من آذار العام 2018.
وبعد طقوس الدفن والكلمات وتراتيل الوداع والنشيج والدموع تفرق الجمع وبقي الراحل وحيداً في ثراه، كما هم كثيرون غيره من أبناء هذا الوطن المبتلى، الذي اضطروا الى العيش في المنافي والموت فيها، لكن عيونهم ظلت محدقة صوب الوطن.
لم اتذكر انني بكيت على أحد في السنوات الاخيرة، بصوت عال، فقد ظل بكائي نشيجاً صامتاً في الأعماق. لكنني ذرفت دموعاً على فالح عبد الجبار، حالما واجهني الخبر في الفيسبوك، في السادس والعشرين من شباط، على صفحة الصديق الباحث د. عقيل الناصري على هيئة عبارة تقول "وفاة العالم الجليل فلاح عبد الجبار". هكذا انتهت الجملة. صعقت ولا اعرف لماذا، مع أن أخبار الموت تواجهنا في كل مكان. فما الجديد إذن؟ كما اننا لم نكن صديقين قربين، سوى أنني التقيته في مناسبات عديدة. كما التقاه كثيرون غيري في لقاءات عابرة متباعدة تقصر او تطول. فلربما هي حياة المنفى، هذه المهنة الشاقة التي جمعتنا، فضاءاتها اربعة عقود. تعبير "المهنة الشاقة" جملة استعيرها من مقولة للشاعر التركي الكبير ناظم حكمت، التي قالها عن السجن "يا لحياة السجن من مهنة شاقة".

 قبل أن التقي الباحث القدير فالح عبد الجبار في نهاية السبعينات وبداية الثمانيات، كنت قد قرأت له بعضا من كتاباته، منها تقريره الصحفي الذي كتبه سوية مع رفيق دربه الكاتب زهير الجزائري عن البوليساريو. كما قرأت له تحليلاته عن الثورة الاسلامية في ايران، ومقالات مختلفة. لكن لقائي الأول به كان في عام 1979، في مهرجان "نيترا" في سلوفاكيا، الذي أقامه الحزب الشيوعي العرقي، بمناسبة اعادة نشاط المنظمات الديمقراطية، "اتحاد الطلبة العام، الشبيبة الديمقراطية ورابطة المرأة" الذي جُمِّد، على اثر اشتراك الحزب في الجبهة الوطنية عام 1973. كانت تلك فعالية كبيرة شارك فيها عدد من نشطاء الجمعيات والروابط الشبابية والنسائية والطلابية، وكان ضيف المهرجان القادم من بغداد حديثاً حينذاك الكاتب الشعبي العريق شمران الياسري "ابو كاطع" وشخصيات أخرى، وفي تلك الفترة، على ما أظن كان الراحل فالح عبد الجبار يعمل على مشروعه في ترجمة موجز كتاب رأس المال لكارل ماركس. ثم توالت لقاءاتي به في مناسبات عديدة، متقطعة تخلقها ظروف تقاسمنا المنفى والانتماء. وفي بداية الثمانينات، التقيته مجدداً، وهذه المرة في مكان اقامتي في بلغراد، حيث كنت على مقاعد الدراسة الجامعية، واسكن في القسم الداخلي للطلبة، عندما حل علينا ضيفاً، وهو في طريقه الى براغ قادماً من دمشق ومعه نسخٌ من العدد الاول من مجلة "البديل" التي اصدرتها رابطة الكتاب والصحفيين والفنانيين الديمقراطيين العراقيين، وهي المنظمة التي تشكلت في المنفى، وكان فالح عبد الجبار احد مؤسسيها. قضينا امسية جميلة دعونا اليها زملاءنا من الطلبة العراقيين وبعضا من اصدقائنا العرب، تعرفت حينها على شخصية طيبة مليئة بالود والحيوية والنكتة، رغم جديته في القضايا المهمة. مرات عديدة التقيت بها ابا خالد، منها في لندن. وصادف ان أحضر فعالية فنية أقامها على ما اتذكر المنتدى العراقي في لندن، كان هو حاضراً فيها. ومن ثم التقيه مجدداً في ستوكهولم، وكان ذلك قبل عدة أعوام، في نهاية التسعينات، ان لم تخنّي الذاكرة، حيث عقد له نادي الرابع من تموز الديمقراطي العراقي ندوة، كان لي شرف تقديمه فيها، وقد تحدث المفكر الراحل عن اهتمامه بدراسة مفهوم العشيرة، في العراق، عن دورها وتأثيرات هذا الدور على الوضع الاجتماعي والسياسي. هذا البحث الذي تعمق الباحث في سبر أغواره، لاحقاً وخرج بحصيلة مهمة جداً، قد تفسر الكثير مما يعيشه المجتمع العراقي اليوم. وخلال فترة مكوثه في ستوكهولم التقيته اكثر من مرة، عرفته فيها عن قرب، انساناً جميل المعشر. نقاشاته موضوعية وهو يتحدث عن عاداتنا وتقاليدنا في الملبس والسلوك على سبيل المثال، من خلال رصد اجتماعي علمي. تحدث ايضاً عن دراسته بحوث عالم الاجتماع علي الوردي، عن اتفاقه واختلافه معه في بعض الطروحات. عن مفهوم العولمة من وجهة نظره. وأشياء كثيرة.
رحل المفكر وعالم الاجتماع فالح عبد الجبار، تاركا وراءه دراساته وتحليلاته القيمة عن المجتمع وحركة التاريخ فيه، وهي حصيلة عمل دؤوب وجهد عقود من الزمن، مؤلفات بالانجلزية والعربية، ترجمة، كما هو موجز "رأس المال" وتأليفاً "الدولة والمجتمع المدني في العراق"، "الديمقراطية المستحيلة والدولة الممكنة"، "معالم العقلانية في الفكر العربي" ، "المادية والفكر الديني المعاصر"، "دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي "داعش والمجتمع المحلي في العراق"، "العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني"، معالم العقلانية والخرافة في الفكر العربي" ، " الهوريلا- اوراق الجنون"، " كما اصدر "فرضيات حول الاشتراكية" و"المقدمات الكلاسيكية لنظرية الاغتراب"، وآخر كتاب صدر له بعنوان "الاستلاب"، وقد تناول فيه تاريخ مفهوم الاغتراب، ودلالاته ومعايناته عند الفلاسفة الذين خاضوا في هذا الميدان: هوبز، لوك، روسو، هيغل، فويرباخ، وماركس.
رحيل المفكر والإنسان فالح عبد الجبار، خسارة للفكر الانساني النير، وفقد مؤلم... فألف باقة ورد لطيب ذكراه.

عرض مقالات: